البابا فرنسيس في أحد الرّحمة الإلهيّة: بدون أعمال الرّحمة يموت الحبّ!
وفي هذا السّياق، قال البابا في عظته بحسب "فاتيكان نيوز": "ظهر يسوع القائم من الموت للتّلاميذ عدّة مرّات. وبصبر عزّى قلوبهم المحبطة، وهكذا بعد قيامته، صنع "قيامة التّلاميذ". وهم، إذ أقامهم يسوع، غيّروا حياتهم. إنَّ كلمات الرّبّ وأمثلته الكثيرة لم تتمكّن من تحويلهم في الماضي، أمّا الآن في عيد الفصح، يحدث شيء جديد؛ ويتمُّ تحت علامة الرّحمة. لقد رفعهم يسوع بالرّحمة. وهم إذ رُحموا أصبحوا رحماء بدورهم.
لقد رُحموا أوّلاً من خلال ثلاث عطايا: أوّلاً يقدّم لهم يسوع السّلام، ثمّ الرّوح القدس، وأخيرًا الجراح. أوّلاً، يمنحهم السّلام. كان هؤلاء التّلاميذ محزونين. كانوا قد حبسوا أنفسهم في المنزل بسبب الخوف، خوفًا من أن يتمَّ اعتقالهم وينتهي بهم الأمر مثل المعلِّم. لكنّهم لم ينغلقوا في البيت فحسب بل كانوا مُنغلقين أيضًا في ندمهم. لقد تخلّوا عن يسوع وأنكروه، وكانوا يشعرون بالعجز وأنّهم لا يصلحون لشيء، وبأنّهم على خطأ. فجاء المسيح وكرّر لهم مرّتين: "السّلام عليكم!". هو لا يحمل السّلام الّذي يزيل المشاكل من الخارج، ولكنّه يحمل السّلام الّذي يبعث الثّقة في الدّاخل. سلامه ليس سلامًا ظاهريًّا، بل هو سلام القلب، ويقول: "السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا" وكأنّه يقول: "أنا أرسلكم لأنّي أثق بكم". وهكذا تصالح هؤلاء التّلاميذ المحبطون مع أنفسهم لأنَّ سلام يسوع جعلهم ينتقلون من النّدم إلى الرّسالة. إنَّ سلام يسوع في الواقع هو الّذي يولِّد الرّسالة. فهو ليس هدوءًا، ولا راحة، بل هو خروج من الذّات. إنَّ سلام يسوع يحرّر من الانغلاقات الّتي تشلّ ويكسر القيود الّتي تسجن القلب. وهكذا شعر التّلاميذ بالرّحمة: شعروا أنّ الله لا يدينهم، ولا يُذلُّهم، بل يؤمن بهم. نعم، هو يؤمن بنا أكثر ممّا نؤمن بأنفسنا. هو يحبّنا أكثر ممّا نحبّ أنفسنا. بالنّسبة لله، لا يوجد أحد على خطأ، ولا أحد عديم الفائدة، ولا أحد مستبعد. واليوم يكرّر يسوع لنا مرّة أخرى: "السّلام لك، يا من أنت ثمين في عينيّ. السّلام لك، يا من أنت مهمّ بالنّسبة لي. السّلام لك، يا من لديك رسالة لا يمكن لأحد أن يقوم بها مكانك، لأنّك لا بديل لك. وأنا أؤمن بك.
ثانيًا، يرحم يسوع التّلاميذ إذ يقدّم لهم الرّوح القدس. يمنحهم إيّاه لمغفرة الخطايا. لقد كان التّلاميذ مذنبين، لقد هربوا وتركوا المعلّم، والخطيئة تعذّب، كما أنَّ الشّرّ له ثمنه. ويقول المزمور إنّ خطيئتنا أمامنا على الدّوام، ولا يمكننا أن نلغيها بمفردنا. وحده الله يلغيها، وحده برحمته يجعلنا نخرج من عُمقِ بؤسنا. تمامًا مثل هؤلاء التّلاميذ، نحن بحاجة أيضًا إلى أن يُغفر لنا. والمغفرة بالرّوح القدس هي العطيّة الفصحيّة لكي ننهض من الدّاخل. لنطلب نعمة أن نقبل ونعانق سرّ الغفران، وأن نفهم أنّه في محور الاعتراف لسنا نحن بخطايانا، وإنّما الله برحمته. نحن لا نذهب للاعتراف لكي نيأس ونستسلم، وإنّما لكي ننهض. نحن في أمسِّ الحاجة لها، جميعنا. نحتاجها مثل الأطفال الصّغار الّذين، في كلّ مرة يسقطون فيها، يحتاجون لأن يرفعهم والدهم. نحن أيضًا نسقط في كثير من الأحيان. ويد الآب هي مستعدّة على الدّوام لكي تُنهضنا على قدمينا وتجعلنا نسير قدمًا. هذه اليد الآمنة والّتي يمكننا الوثوق بها هي الاعتراف. إنّه السّرّ الّذي يرفعنا، ولا يتركنا أرضًا نبكي على الأرضيّات الصّلبة لسقطاتنا. إنّه سر القيامة، وهو رحمة صِرفة؛ وعلى الّذي يتلقّى الاعترافات أن يجعل الشّخص الآخر يشعر بحلاوة الرّحمة.
بعد السّلام الّذي يعيد تأهيلنا والمغفرة الّتي ترفعنا، إليكم العطيّة الثّالثة الّتي يرحم بها يسوع التّلاميذ: هو يقدّم لهم الجراح، ومن تلك الجراح قد شُفينا. لكن كيف يمكن لِجُرح أن يشفينا؟ بالرّحمة. في تلك الجراح، على مثال توما، نلمس بأيدينا أنّ الله يحبّنا إلى أقصى الحدود، وأنّه أخذ جراحنا على عاتقه وحمل ضعفنا في جسده. إنَّ الجراح هي قنوات مفتوحة بينه وبيننا، وهي تفيض الرّحمة على بؤسنا. إنّها الدّروب الّتي شرّعها الله لنا لكي ندخل في حنانه ونلمسه بأيدينا فلا نشكَّ بعد الآن أبدًا في رحمته. من خلال العبادة وبتقبيلنا لجراحه نكتشف أنَّ حنانه قد قبل جميع نقاط ضعفنا. هذا الأمر يحدث في كلّ قدّاس، حيث يقدّم لنا يسوع جسده المُثخَّن بالجراح والقائم من الموت: فنلمسه ويلمس هو حياتنا، ويجعل السّماء تنزل إلينا. إنَّ جراحه المنيرة تخترق الظّلام الّذي نحمله في داخلنا، وعندها، على مثال توما، نجد الله، ونكتشفه حميمًا وقريبًا، ونقول له: "ربّي وإلهي!". كلّ شيء يولد من هنا، من نعمة الرّحمة. من هنا تبدأ المسيرة المسيحيّة. أمّا إذا اعتمدنا على مهاراتنا، وعلى فعاليّة هيكليّاتنا ومشاريعنا، فلن نذهب بعيدًا. فقط إذا قبلنا محبّة الله سنكون عندها قادرين على أن نعطي شيئًا جديدًا للعالم.
هكذا فعل التّلاميذ: إذ نالوا الرّحمة أصبحوا هم أيضًا رحماء. نرى ذلك في القراءة الأولى. يروي سفر أعمال الرّسل أنّه لم يكن أحد منهم يقول "إِنَّه يَملِكُ شَيئًا مِن أَموالِه، بل كانَ كُلُّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم". هذه ليست شيوعيّة، بل هي المسيحيّة بحقيقتها. وسيكون من المدهش أكثر إذا فكّرنا أنّ هؤلاء التّلاميذ أنفسهم قد تشاجروا قبل ذلك بقليل على الجوائز والأوسمة، وحول من هو الأعظم بينهم، فيما هم الآن يتشاركون في كلّ شيء، ولديهم "قَلبًا واحِدًا ونَفْسًا واحِدة". كيف تغيّروا هكذا؟ لقد رأوا في الآخر الرّحمة عينها الّتي غيّرت حياتهم. لقد اكتشفوا أنّهم يشتركون في الرّسالة عينها والمغفرة عينها وبجسد يسوع وبالتّالي بدت مشاركة الخيرات الأرضيّة نتيجة طبيعيّة. ثمّ يقول النّصّ إنّه "لَم يَكُنْ فيهمِ مُحتاج". لقد تلاشت مخاوفهم بلمسهم لجراح الرّبّ، وهم الآن لا يخافون من مداواة جراح المحتاجين. لأنّهم هناك يرون يسوع، لأنّ يسوع موجود هناك.
أيّتها الأخت وأيّها الأخ هل تريد دليلاً على أنّ الله قد لمس حياتك؟ أنظر إذا كنت تنحني على جراح الآخرين. اليوم هو اليوم الّذي نسأل فيه أنفسنا: "أنا الّذي نلت مرارًا سلام الله ومغفرته ورحمته، هل أنا رحيم مع الآخرين؟ أنا، الّذي تغذّيتُ بجسده مرّات عديدة، هل أفعل شيئًا لإطعام الفقراء؟". لا نقِفَنَّ غير مبالين. ولا نعيشنَّ نصفَ إيمان، يأخذ ولا يعطي، يقبل العطيّة ولكنّه لا يُصبح عطيّة. لقد نلنا الرّحمة وبالتّالي علينا أن نصبح رحماء بدورنا. لأنّه إذا انتهى الحبّ معنا، فسيجفّ الإيمان في علاقة حميمة عقيمة. بدون الآخرين يصبح الحبّ بلا جسد، وبدون أعمال الرّحمة يموت. لنسمح بأن يقيمنا السّلام والمغفرة وجراح يسوع الرّحيم. ولنطلب النّعمة بأن نصبح شهودًا للرّحمة. بهذه الطّريقة فقط سيبقى الإيمان حيًّا، والحياة موحّدة. بهذه الطّريقة فقط سنعلن إنجيل الله، الّذي هو إنجيل الرّحمة."
وفي ختام القدّاس، تلا البابا فرنسيس صلاة "إفرحي يا ملكة السّماء"، ألقى قبلها كلمة قال فيها: "قبل أن أختتم هذا الاحتفال، أودّ أن أشكر كلّ من تعاون في إعداده وبثّه على الهواء مباشرة. وأحيّي جميع الّذين يتابعوننا عبر وسائل الإعلام.
أوجّه تحيّة خاصّة إليكم، أنتم الحاضرين هنا في كنيسة الرّوح القدس في ساسيا، مزار الرّحمة الإلهيّة: المؤمنون، والممرّضون، والسّجناء، وذوي الاحتياجات الخاصّة، واللّاجئون، والمهاجرون، وراهبات الرّحمة الإلهيّة، ومتطوّعو الحماية المدنيّة. أنتم تمثّلون بعض الوقائع الّتي تصبح فيها الرّحمة ملموسة، وقربًا، وخدمة، وانتباهًا للأشخاص الّذين يواجهون صعوبات. أتمنّى لكم أن تشعروا بالرّحمة على الدّوام لكي تكونوا بدوركم أيضًا رحماء. لِتَنَل مريم العذراء، أمّ الرّحمة، هذه النّعمة لنا جميعًا."