الفاتيكان
16 نيسان 2021, 10:20

البابا فرنسيس: جعلت الصّلاة من القدّيسة تريزيا امرأة استثنائيّة مبدعة ومجدّدة

تيلي لوميار/ نورسات
هي "امرأة استثنائيّة" ومبدعة ومجدِّدة، هي ملفانة الكنيسة منذ نصف قرن، هي القدّيسة تريزيا الأفيليّة الّتي يُعقد في الذّكرى السّنويّة الخمسين لإعلانها ملفانة مؤتمر "mujer excepcional". وللمناسبة وجّه البابا فرنسيس رسالة إلى المشاركين أضاء فيها على استثنائيّة هذه القدّيسة، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"إنَّ التّعبير "mujer excepcional"، "امرأة استثنائيّة" وهو عنوان لقائكم قد استخدمه القدّيس بولس السّادس. نحن أمام شخص برز في أمور كثيرة. ومع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أنّ أهمّيّتها في هذه الأبعاد ليست أكثر من نتيجة لما كان مهمًّا بالنّسبة لها: لقاءها مع الرّبّ، و"تصميمها الحازم"، كما تقول، على المثابرة في الاتّحاد به في الصّلاة، ونيّتها الرّاسخة في تنفيذ المهمّة الّتي أوكلها الرّبّ إليها، والّتي تقدّم لها ذاتها بكلّ بساطة قائلة، بهذه اللّغة البسيطة: "إنّي لك، فلأنت غاية مولدي، ماذا تريدني أن أكون وأعمل؟". إنّ تيريزيا ليسوع هي استثنائيّة، أوّلاً لأنّها قدّيسة. إنّ انصياعها للرّوح القدس يوحّدها بالمسيح ويجعلها تتّقد في محبّة الله. وبكلمات جميلة تعبّر عن خبرتها قائلة: "لقد قدّمت ذاتي، وبهذه الطّريقة قايضتُ، بأنّ حبيبي لي وأنا لحبيبي". لقد علّمنا يسوع أنّه مِن فَيضِ القلب يَتَكَلَّمُ اللّسان. إنّ شجاعة وإبداع وتفوُّق القدّيسة تيريزيا كمُصلِحة، جميع هذه الأمور هي ثمرة الحضور الدّاخليّ للرّبّ.

نقول إنّ ما نشهده ليس مجرّد عصر تغييرات، إنّما هو تغييرٌ في العصر. وبهذا المعنى، لدينا الكثير من أوجه التّشابه مع القرن السّادس عشر الّذي عاشت فيه هذه القدّيسة. كما في ذلك الوقت، نحن المسيحيّون مدعوّون اليوم أيضًا لكي ومن خلالنا تواصل قوّة الرّوح القدس تجديد وجه الأرض، مع اليقين بأنّ القدّيسين هم الّذين يسمحون للعالم بالتّقدّم نحو هدفه النّهائيّ. من الجيّد أن نتذكّر الدّعوة الشّاملة إلى القداسة الّتي تحدّث عنها المجمع الفاتيكانيّ الثّاني. "إنَّ الدّعوة إلى كمالِ السّيرة المسيحيّة وكمال المحبّة، لموجهة إلى كلّ الّذين يؤمنون بالمسيح أيًّا كان وضعهم أو شكل حياتهم. وهذه القداسة تعزِّزُ نمطًا من الحياةِ أشدَّ إنسانيَّة حتّى في المجتمع الزّمنيّ. فعلى المؤمنين أن يجتهدوا بكلّ قواهم، على مقدار عطيّة المسيح، أن يحصلوا على هذا الكمال حتّى إذا ما ساروا على خطاه، وتمثّلوا بصورته وكمّلوا في كلِّ شيءٍ إرادة الآب، ينذرون أنفسهم من كلِّ قلبهم لمجد الله وخدمة القريب". إنَّ القداسة ليست فقط لبعض "المتخصّصين في الإلهيّات"، لكنّها دعوة جميع المؤمنين. والإتّحاد بالمسيح، الّذي يختبره الصّوفيّون مثل القدّيسة تريزيا بطريقة خاصّة بالنّعمة الخالصة، نحن نناله بالمعموديّة. وبالتّالي يحثّنا القدّيسون ويحفّزوننا، لكنّهم ليسوا موجودين لكي "ننسخهم حرفيًّا"، لأنّ القداسة لا يمكن نسخها، "لأنّ حتّى هذا الأمر يمكنه أن يقودنا بعيدًا عن الطّريق الفريد والمختلف الّذي حفظه الرّبّ لكلّ فرد منّا. المهمّ هو أن يميّز كلّ مؤمن مسيرته الخاصّة، لأنّه لكلّ واحد منّا مسيرته في القداسة، وللقاء الرّبّ.

في الواقع، تحذّر القدّيسة تريزيا راهباتها من أنّ الصّلاة ليست من أجل اختبار أشياء غير عاديّة، وإنّما لكي توحِّدنا بالمسيح، والعلامة على حقيقة هذا الاتّحاد هي أعمال المحبّة. "هذا هو سبب الصّلاة،- تكتب في كتاب المنازل-؛ هذا هدف هذا الزّواج الرّوحيّ: أن تولد الأعمال على الدّوام". كما حذّرت سابقًا، في الكتاب عينه: "عندما أرى أرواحًا مجتهدة جدًّا لكي تفهم الصّلاة الّتي لديها وتكون مُقطّبة خلالها، إذ يبدو أنّها لا تجرؤ على التّنهُّد أو تحريك فكرها لكي لا تفقد القليل من اللّذة والعبادة اللّتين أختبَرَتهما، يجعلني هذا الأمر أرى مدى ضآلة فهمها للمسيرة الّتي يتمّ من خلالها بلوغ الاتّحاد مع الله، واعتقادها بأنّ المسألة كلّها تقوم على ذلك. لا أيّتها الأخوات، لا! إنّ الرّبّ يريد الأعمال؛ وإذا رأيتِ مريضة يمكنكِ أن تقدّمي لها بعض التّعزية والرّاحة، فلن تفقدي شيئًا من تلك العبادة إن حنوتِ وأشفقتِ عليها... لأنَّ هذا هو الاتّحاد الحقيقيّ مع مشيئة الله". بإختصار، ما يقيس كمال الأشخاص هي درجة محبّتهم، وليس كمّيّة البيانات، والمعرفة المتراكمة لديهم، وأشياء أخرى من هذا القبيل.

تعلّمنا القدّيسة تريزيا أنّ المسيرة الّتي جعلتها امرأة استثنائيّة ومرجعًا عبر القرون، هي مسيرة الصّلاة، المفتوحة لكلّ من ينفتح بتواضع على عمل الرّوح القدس في حياته، وأنّ العلامة بأنّنا نتقدّم في هذه المسيرة هي أن نكون أكثر تواضعًا في كلِّ مرّة، وأكثر اهتمامًا باحتياجات إخوتنا، وأبناء أفضل في شعب الله المقدّس. هذه المسيرة لا تنفتح للّذين يعتبرون أنفسهم طاهرين وكاملين، وإنّما للّذين، إذ يدركون خطاياهم، يكتشفون جمال رحمة الله، الّذي يقبل الجميع، ويفتدي الجميع، ويدعو الجميع إلى صداقته. من المثير للاهتمام كيف أنّ إدراك المرء بأنّه خاطئ هو الّذي يفتح الباب على طريق القداسة. إنَّ القدّيسة تريزيا، الّتي اعتبرت نفسها "حقيرة وبائسة"، كما كانت تصف نفسها، قد اعترفت أنّ صلاح الله "أعظم من جميع الشّرور الّتي يمكننا ارتكابها، وهو لا يتذكّر جحودنا للجميل... وكانت تقول لراهباتها: "تذكّرنَ كلماتِه وانظرنَ ماذا فعل معي، إذ أنّني سئِمتُ وتعبتُ أوّلاً من الإساءة إليه، لذلك توقّف جلالته عن مسامحتي". نحن نسأم ونتعب أوّلاً من إهانة الله، والسّير في دروب غريبة، بدلاً من أن يسأم الله ويتعب من المغفرة لنا. هو لا يتعب أبدًا من مسامحتنا. أمّا نحن فنسأم من طلب المغفرة، وهنا يكمن الخطر. إنَّ الرّبّ لا يتعب أبدًا من العطاء ورحمته لا تنفد أبدًا. فلا نتعبنَّ أبدًا من النّوال ولنفتح قلوبنا بتواضع. لقد كانت إحدى فقراتها المفضّلة في الكتاب المقدّس الآية الأولى من المزمور التّاسع والثّمانين والّتي جعلتها، بمعنى ما، شعارًا لحياتها: "بمراحم الرّبّ أُغنِّي إلى الدّهر."

لقد جعلت الصّلاة من القدّيسة تريزيا امرأة استثنائيّة، امرأة مبدعة ومُجدِّدة. من صلاتها، اكتشفت مثال الأخوَّة الّذي أرادت أن تجعله حقيقة في الأديرة الّتي أسّستها: "هنا علينا جميعًا أن نكون أصدقاء، وعلى الجميع أن يحببنَ بعضهنَّ بعضًا، وعلى الجميع أن يساعدنَ بعضهنَّ بعضًا". في الصّلاة عرفت أنّ المسيح القائم من بين الأموات يعاملها كزوجة وصديقة. بالصّلاة انفتحت على الرّجاء. وبهذه الفكرة أرغب في أن أنهي تحيّتي لكم. نحن نعيش، مثل ملفانة الكنيسة، "أوقاتًا صعبة"، أوقاتًا  ليست سهلة أبدًا تحتاج إلى "أصدقاء أمناء لله"، أصدقاء أقوياء. إنَّ التّجربة الكبرى هي الاستسلام لخيبة الأمل، والخنوع، وللشّعور المدمّر الّذي لا أساس له بأنّ لا شيء سيسير على ما يرام. يميل بعض الأشخاص، الّذين يخافون من هذه الأفكار، إلى الانغلاق على أنفسهم، والاختباء في أشياء صغيرة ومشاريع أنانيّة لا تبني الجماعة، بل تدمّرها. أمّا الصّلاة فهي تفتحنا وتسمح لنا بأن نتذوّق أنّ الله عظيم وأنّه وراء الأفق، وأنّ الله صالح وأنّه يحبّنا وأنّ التّاريخ لم يفلت من يديه. قد نسير ربّما في أودِيةٍ مظلمة، لكن الرّبّ لا يتوقّف أبدًا عن السّير إلى جانبنا ويقودنا إلى الهدف الّذي نتوق إليه جميعًا: الحياة الأبديّة. يمكننا جميعًا أن نتحلّى بالشّجاعة لفعل أشياء عظيمة، لأنّنا نعلم أنّ الله يحبّنا. ومعه نحن قادرون على تحقيق أي تحدٍّ كان، لأنّ قلوبنا في الواقع ترغب فقط برفقته الّتي تمنحنا الملء والبهجة اللّذين خلقنا من أجلهما. وهذا ما لخّصته القدّيسة في صلاة معروفة جدًّا أدعوكم لكي تصلّوها باستمرار: "نفسي لا تخافي نفسي لا تضطربي؛ كلّ شيء ينتهي والله لا يتغيّر؛ بالصّبر تنالين كلّ شيء؛ من له الله لا يعوزه شيء. وحده الله يكفيك"".