البابا فرنسيس: المجد الحقيقيّ هو مجد المحبّة
"تأتي الصّلاة الأولى بعد العشاء الأخير عندما رفع الرّبّ "عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ وقال: "يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ". "مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم" (يوحنّا ١٧، ١. ٥). يطلب يسوع المجد، طلب يبدو متناقضًا فيما أصبحت الآلام على الأبواب. عن أيّ مجد يتحدّث؟ يشير المجد في الكتاب المقدّس إلى ظهور الله، إنّه العلامة المميّزة لحضوره المخلّص بين البشر. والآن يسوع هو الّذي يُظهر بشكل نهائيّ حضور الله وخلاصه، وذلك في الفصح: إذ مُجِّد عندما رُفع على الصّليب. هناك أخيرًا أظهر الله مجده: يزيل الحجاب الأخير ويدهشنا بطريقة لم نعرفها من قبل؛ ونكتشف في الواقع أنّ مجد الله هو محبّة كاملة: محبّة طاهرة ومجنونة لا تخطر على بال أحد وتذهب أبعد من كلّ حدود ومقياس.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء لنتبنّى صلاة يسوع: لنطلب من الآب أن يزيل الأحجبة عن عيوننا لكي نتمكّن خلال هذه الأيّام الّتي ننظر فيها إلى المصلوب، من أن نقبل الله الّذي هو محبّة. كم من مرّة نتصوّره سيّدًا لا أبًا، كم من مرّة نفكّر فيه كديّان قاسٍ بدلاً من مخلّص رحيم! لكن الله في الفصح قد أزال المسافات وأظهر نفسه في تواضع محبّة تطلب محبّتنا. لذلك نحن نمجّده عندما نعيش كلَّ ما نقوم به بمحبّة وعندما نقوم بكلِّ شيء من قلبنا كما ولو كنّا نقوم به من أجله.
المجد الحقيقيّ هو مجد المحبّة لأنّها الوحيدة الّتي تعطي الحياة للعالم. إنّ هذا المجد بالتّأكيد هو عكس المجد الدّنيويّ الّذي يتحقّق عندما نكون محطّ الإعجاب والمدح والتّصفيق: أيّ عندما أكون "أنا" في محور الاهتمام. لك مجد الله متناقض: لا وجود للتّصفيق ولا وجود للجمهور. ولست أنا المحور بل الآخر: في الواقع نرى في الفصح أنَّ الآب يمجّد الابن فيما يمجّد الابن الآب أيضًا. لا أحد يمجّد نفسه. وبالتّالي يمكننا أن نتساءل: ما هو المجد الّذي أعيش من أجله؟ هل هو مجدي أم مجد الله؟ هل أرغب فقط في الحصول على شيء ما من الآخرين أمّ أنّني أعطي الآخرين شيئًا ما أيضًا؟
بعد العشاء الأخير دخل يسوع إلى بستان الجتسمانيّ، وهنا أيضًا يرفع صلاته إلى الآب. وفيما لا يتمكّن التّلاميذ من السّهر، ويصل يهوذا مع الجنود يبدأ يسوع بالشّعور بالخوف واليأس. يشعر باليأس لما ينتظره: خيانة واحتقار وألم وفشل. هو حزين وفي هاوية اليأس تلك يوجّه إلى الآب أعذب وأحنَّ كلمة: "أبا" أيّ يا أبي. في التّجربة يعلّمنا يسوع أن نعانق الآب لأنّنا في رفعنا الصّلاة إليه نجد القوّة للمضيّ قدمًا في الألم. في التّعب تشكّل الصّلاة راحة واتّكالاً وتعزية. في ترك الجميع له وفي اليأس الداخليّ يسوع ليس وحده بل هو مع الآب. أمّا نحن فغالبًا ما نختار عندما نكون في الجتسمانيّ خاصتنا أن نبقى وحدنا بدلاً من أن ندعو الآب ونوكل أنفسنا له على مثال يسوع ونستسلم إلى مشيئته الّتي هي خيرنا الحقيقيّ. ولكن عندما نبقى في التّجربة منغلقين على ذواتنا نحفر نفقًا في داخلنا، ومسيرة انطوائيّة أليمة باتّجاه واحد ودائمًا إلى عمق أعماقنا. لكنَّ المشكلة الأكبر ليست الألم وإنّما كيفيّة مواجهته. إنّ الوحدة لا تقدّم مخرجًا أم الصّلاة فبلى لأنّها علاقة وتسليم. ويسوع يسلّم كلَّ شيء ويتّكل على الآب ويحمل إليه كلَّ ما يشعر به ويتّكل عليه في الكفاح. عندما ندخل في الجتسماني الخاصّ بنا– وكلّ لديه الجتسمانيّ الخاصّ به أو عاشه أو سيعيشه– لنتذكّر أن نرفع صلاتنا قائلين: "أيّها الآب".
في النّهاية يوجّه يسوع إلى الآب صلاة ثالثة من أجلنا: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون". يصلّي يسوع من أجل من كان شرّيرًا معه ومن أجل قاتليه. ويحدّد الإنجيل أنَّ هذه الصّلاة تتمُّ عند لحظة الصّلب. لقد كانت ربّما لحظة الألم المبرح، عندما سُمِّرت يدا يسوع ورجلاه. وهنا في قِمّة الألم بلغ إلى ذروة المحبّة: تصل المغفرة أيّ عطيّة القوّة الّتي تكسر حلقة الشّرّ.
خلال تلاوتنا لـ"صلاة الأبانا" خلال هذه الأيّام يمكننا أن نطلب إحدى هذه النّعم: أن نعيش أيّامنا من أجل مجد الله أيّ أن نعيش بمحبّة؛ أن نعرف كيف نتّكل على الآب عند التّجارب وننادي الآب "أبًا" ونجد في اللّقاء معه المغفرة والشّجاعة لنغفر. والآب سيغفر لنا بالتّأكيد ولكنّه سيعطينا الشّجاعة لنتمكّن بدورنا من أن نغفر للآخرين".