الفاتيكان
15 آذار 2021, 11:20

البابا فرنسيس: الفرح الحقيقيّ هو أن نشعر بأنّ هناك من يحبّنا بمجّانيّة ويرافقنا

تيلي لوميار/ نورسات
"إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ، حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد"، على ضوء هذه الآية، شدّد البابا فرنسيس على محبّة الله العظيمة والّتي يكمن فيها سرّ الفرح الحقيقيّ، وذلك خلال عظة قدّاس إلهيّ ترأّسه الأحد لمناسبة الذّكرى المئويّة الخامسة على بشارة الفلبّين، في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":

"هذا هو جوهر الإنجيل، وهنا نجد أساس فرحنا. إنّ محتوى الإنجيل، في الواقع، ليس فكرة أو عقيدة، ولكنّه يسوع، الإبن الّذي أعطانا الآب إيّاه لكي تكون لنا الحياة. وأساس فرحنا ليس نظريّة جميلة حول كيف نكون سعداء، وإنّما هو أن نختبر أنّ هناك من يرافقنا في مسيرة حياتنا ويحبّنا. "لقد أَحبَّ العالَمَ، حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه". لنتوقّف للحظة عند هذين الجانبين: "لقد أَحبَّ العالَمَ" و"جادَ".

أوّلاً "إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ". هذه الكلّمات الّتي وجّهها يسوع إلى نيقوديمس- رجل يهوديّ مسنّ أراد أن يتعرّف على المعلّم- تساعدنا على رؤية وجه الله الحقيقيّ. هو ينظر إلينا دائمًا بمحبّة، ومحبّة بنا جاء بيننا في جسد ابنه. لقد جاء فيه ليبحث عنّا في الأماكن الّتي ضللنا فيها؛ فيه جاء ليقيمنا من سقطاتنا، فيه ذرف دموعنا وشفى جراحنا؛ وفيه بارك حياتنا إلى الأبد. من يؤمن به، يقول الإنجيل، لا يهلك. في يسوع، لفظ الله الكلمة النّهائيّة عن حياتنا: أنت لم تهلك، فأنت محبوب، محبوب على الدّوام.

إذا كان الإصغاء إلى الإنجيل وممارسة إيماننا لا يوسّعان قلوبنا ليجعلانا ندرك عظمة هذا الحبّ، وربّما كنّا ننزلق في تديُّن جدِّيّ وحزين ومنغلق، فهذه علامة على أنّه يجب أن نتوقّف ونصغي مجدّدًا إلى إعلان البشرى السّارّة: الله يحبّك كثيرًا حتّى إنّه جاد عليك بحياته كلّها. إنّه ليس إلهًا ينظر إلينا من فوق بلامبالاة، بل هو أب محبّ يشارك في تاريخنا؛ هو ليس إلهًا يَسعَد بموت الخاطئ، لكنّه أب يخشى أن يهلك أحد منّا؛ هو ليس إلهًا يدين، لكنّه أب يخلّصنا بعناق محبّته.

ونصل إلى الكلمة الثّانية: الله "جاد" بابنه. وبالتّحديد لأنّه يحبّنا كثيرًا، يهبنا الله نفسه ويقدّم لنا حياته. إنَّ الّذي يحبّ يخرج دائمًا من ذاته. إنَّ الحبّ يقدّم نفسه على الدّوام، يجود بنفسه، ويبذل نفسه. إنّ قوّة الحبّ: تُحطّم قشرة الأنانيّة، وتكسر الضّمانات البشريّة المحسوبة بشكل مفرط، وتهدم الجدران وتتغلّب على المخاوف، لتصبح عطيّة. هكذا هو من يُحبّ: يفضّل المجازفة في بذل ذاته بدلاً من أن يضيّع نفسه في الحفاظ عليها. لهذا يخرج الله من ذاته: لأنّه "أحبّ كثيرًا". إنّ حبّه عظيم لدرجة أنّه لا يسعه إلّا أن يهب نفسه لنا. عندما هاجمت الأفاعي السّامّة النّاس السّائرين في الصّحراء، جعل الله موسى يصنع أفعى نحاسيّة، ولكنّه في يسوع، الّذي رُفع على الصّليب، جاء هو نفسه ليشفينا من السّمِّ الّذي يعطي الموت، وجعل نفسه خطيئة لكي يخلّصنا من الخطيئة. إنَّ الله لا يحبّنا بالكلمات: هو يعطينا ابنه لكي يخلّص كلّ من ينظر إليه ويؤمن به.

كلّما أحببنا أكثر، زادت قدرتنا على العطاء. هذا أيضًا هو المفتاح لكي نفهم حياتنا. كم هو جميل أن نلتقي أشخاصًا يحبّون بعضهم البعض ويتشاركون الحياة؛ يمكننا أن نقول عنهم ما نقوله عن الله: إنّهم يحبّون بعضهم البعض لدرجة أنّهم يجودون بحياتهم. لا يهمُّ فقط ما يمكننا إنتاجه أو كسبه، وإنّما المهمُّ بشكل خاصّ هو الحبّ الّذي نعرف أن نعطيه. هذا هو مصدر الفرح! إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ، حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد. ومن هنا تأخذ معناها الدّعوة الّتي توجهها الكنيسة في هذا الأحد: "افرحي [...] ابتهجوا وتهلّلوا، يا جميع النّائحين لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعازيها". أُفكّر في ما عشناه لأسبوع مضى في العراق: شعب معذّب ابتهج فرحًا بفضل لله ورحمته.

أحيانًا نبحث عن الفرح حيث لا يوجد، في الأوهام الّتي تتلاشى، في أحلام عظمة الأنا، في الأمان الظّاهر للأشياء المادّيّة، في عبادة صورتنا. لكنَّ خبرة الحياة تعلّمنا أنّ الفرح الحقيقيّ هو أن نشعر بأنَّ هناك من يحبّنا بمجّانيّة ويرافقنا، وأنّ هناك من يشاركنا أحلامنا، ويأتي لمساعدتنا ويقودنا إلى ملاذ آمن، عندما تغرق سفينتنا. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد مرّت خمسمائة عام على وصول الإعلان المسيحيّ لأوّل مرّة إلى الفلبّين. لقد نلتم فرح الإنجيل: أنَّ اللهَ أَحبَّناَ، حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه من أجلنا. وهذا الفرح يظهر في شعبكم، وفي عيونكم، في وجوهكم، وفي ترانيمكم وصلواتكم. أريد أن أشكركم على الفرح الّذي تحملونه للعالم كلّه وللجماعات المسيحيّة. أفكّر في العديد من الخبرات الجميلة في العائلات الرّومانيّة- ولكن الأمر كذلك في جميع أنحاء العالم- حيث عرف حضوركم الخفيّ والعامل كيف يصبح أيضًا شهادةً للإيمان. بأسلوب مريم ويوسف: يحبّ الله أن يحمل فرح الإيمان في الخدمة المتواضعة والخفيّة والشّجاعة والمثابِرة.

وفي هذه المناسبة الهامّة جدًّا لشعب الله المقدّس في الفلبّين، أودّ أيضًا أن أحثّكم على عدم التّوقّف عن عمل التّبشير- الّذي ليس اقتناصًا. إنَّ ذلك الإعلان المسيحيّ الّذي نلتموه هو إعلان عليكم أن تحملوه دائمًا للآخرين؛ إنَّ إنجيل قرب الله يطلب بأن يعبّر المرء عنه في المحبّة تجاه الإخوة؛ إنّ رغبة الله في ألّا يهلك أحد تطلب من الكنيسة أن تعتني بالجرحى وبالّذين يعيشون على الهامش. إذا كان الله يحبّ كثيرًا لدرجة أنّه جاد بنفسه، فإنّ الكنيسة لديها أيضًا هذه الرّسالة: فهي ليست مرسلة لتحكم وإنّما لكي تستقبل، لا لتفرض وإنّما لتزرع؛ لا لتدين وإنّما لكي تحمل المسيح الّذي هو الخلاص.

أعلم أنّ هذا هو البرنامج الرّاعويّ لكنيستكم: الالتزام الرّسوليّ الّذي يشمل الجميع ويصل إلى الجميع. لا تيأسوا أبدًا من السّير في هذا الطّريق. لا تخافوا من إعلان الإنجيل، من الخدمة والمحبّة. لأنّه بفرحكم ستسمحون بأن يُقال في الكنيسة أيضًا: "لقد أحببت العالم كثيرًا!". جميلة وجذّابة هي الكنيسة الّتي تحبّ العالم دون أن تحكم عليه وتبذل نفسها في سبيله. فليكن الأمر هكذا، في الفلبّين وفي جميع أنحاء الأرض."