الفاتيكان
06 نيسان 2020, 05:55

البابا فرنسيس: الفرح الأكبر هو أن نقول نعم للحبّ بدون حسابات

تيلي لوميار/ نورسات
وقف البابا فرنسيس صباح أحد الشّعانين، في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان وسط صمت فرضه غياب المؤمنين القسريّ عن الذّبيحة الإلهيّة بسبب الوباء الفتّاك، واحتفل بقدّاس أحد الشّعانين مفتتحًا أسبوع الآلام، هذا الأحد الّذي عادة ما يكون مخصّصًا أيضًا للاحتفال باليوم العالميّ للشّباب منذ 35 عامًا، وألقى عظته على مسامع العالم الّذي تابعه عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وقال نقلاً عن "فاتيكان نيوز":

"يسوع قد "تجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد". لنسمح لكلمات بولس الرّسول هذه أن تُدخلنا في الأيّام المقدّسة، حيث تُظهر لنا كلمة الله، كلازمة، يسوع كعبد: يوم خميس الأسرار هو العبد الّذي يغسل أرجل التّلاميذ، يوم جمعة الآلام يُقدّم كالعبد المتألِّم والمنتصر؛ وسيتنبّأ عنه أشعيا غدًا قائلاً: "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ". إنّ الله قد خلّصنا بخدمته لنا. عادة نعتقد أنّنا نحن الّذين نخدم الله؛ لا لأنه هو الّذي خدمنا مجّانًا لأنّه أحبَّنا أوّلاً. وبالتّالي من الصّعب علينا أن نُحِبَّ بدون أن نُحَبَّ، ولكنّه من الأصعب أيضًا أن نخدم إن لم نسمح لله بأن يخدمنا.

ولكن بأيّ أسلوب قد خدمنا الرّبّ؟ من خلال بذل حياته من أجلنا. نحن عزيزون عليه وقد كلّفناه غاليًا. تشهد القدّيسة أنجيلا دا فولينيو بأنّها سمعت هذه الكلمات من يسوع: "محبّتي لكِ لم تكن مزحةً". إنَّ محبّته قد حملته على أن يُضحّيَ بنفسه من أجلنا، وليأخذ على عاتقه كلَّ شرِّنا. إنّه أمر يتركنا عاجزين عن الكلام: إنّ الله قد خلّصنا سامحًا لشرِّنا بأن ينصب عليه. بدون أيّة ردّة فعل وإنّما فقط بتواضع وصبر وطاعة العبد وبقوّة الحبّ. والآب قد عضد خدمة يسوع: لم يهزم الشّرّ الّذي كان ينصبُّ عليه بل عضد ألمه لكي يتمّ الانتصار على شرِّنا بالخير فقط ولكي يخترقه الحبّ حتّى أعماقه.

إنّ الرّبّ قد خدمنا لدرجة أنّه قد اختبر الحالات الأليمة في سبيل الّذين يحبّهم: الخيانة والتّرك. أوّلاً الخيانة. لقد عاش يسوع خيانة التّلميذ الّذي باعه والتّلميذ الّذي أنكره. لقد خانه النّاس الّذين كانوا يهتفون له الـ"هوشعنا" فصرخوا من بعدها: "ليُصلب!". لقد خانته السّلطة الدّينيّة الّتي حكمت عليه ظلمًا والسّلطة السّياسيّة الّتي غسلت يديها. لنفكّر في الخيانات الصّغيرة أو الكبيرة الّتي عشناها في حياتنا. إنّه لأمر رهيب عندما نكتشف أنّ الثّقة الّتي وضعناه في شخص ما لم يكن يستحقُّها. فتولد في عمق القلب خيبة لدرجة أنّه يبدو لنا أنّ الحياة لم يعد لها معنى. هذا الأمر يحدث لأنّنا ولدنا لكي نُحِبَّ ونُحَبّ، وأكثر ما يؤلمنا هو خيانة من وعدنا أن يكون وفيًّا لنا وقريبًا منّا. وبالتّالي لا يمكننا حتّى أن نتصوّر كم كان هذا الأمر أليمًا بالنّسبة لله الّذي هو محبّة.

لننظر إلى داخلنا؛ وإن كنّا صادقين مع أنفسنا فسنرى عدم أمانتنا وخيانتنا. كم من الخداع والرّياء والازدواجيّة! وكم من النّوايا الحسنة قد تمّت خيانتها! وكم من الوعود لم تتمّ المحافظة عليها! وكم من الأهداف قد تلاشت! إنّ الرّبّ يعرف قلبنا أفضل منّا، ويعرف كم نحن ضعفاء ومتقلِّبين وكم من مرّة نسقط وكم نتعب لكي ننهض مجدّدًا وكم هو صعب علينا أن نُشفى من بعض الجراح. وماذا فعل لكي يساعدنا ويخدمنا؟ ما كان قد قاله من خلال النّبيّ: "أنا أشفي ارتدادهم. أحبّهم فضلاً". لقد شفانا آخذًا على عاتقه عدم أمانتنا ورافعًا إيّانا من خياناتنا. هكذا وبدلاً من أن نيأس لخوفنا من عدم نجاحنا في النّهوض يمكننا أن نرفع نظرنا نحو المصلوب وننال عناقه قائلين: "هاك عدم أمانتي وخيانتي، إنّها هناك لقد أخذتها أنت يا يسوع. أنت تفتح لي ذراعيك وتخدمني بحبِّك ولا تزال تعضدني... ولذلك أنا أمضي قدمًا!".

ثانيًا، التّرك. على الصّليب، في إنجيل اليوم، يقول يسوع جملة واحدة: "إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟". إنّها جملة قويّة. إنّ يسوع قد تألّم بسبب ترك تلاميذه الّذين هربوا. لكن الآب كان لا يزال معه. أمّا الآن وفي عمق وحدته يدعوه بالاسم المطلق: "الله"، ويصرخ بصوت عظيم سائلاً: "لماذا تركتني؟". إنّها في الواقع كلمات أحد المزامير وتقول لنا إنَّ يسوع قد حمل الله في صلاته حتّى في ضيقه وعذابه. لكن يبقى الواقع بأنّه قد اختبر التّرك الأعظم وتشهد الأناجيل على ذلك إذ تنقل إلينا كلماته الأصليّة: "إِيلي إِيلي لَمَّا شَبَقْتاني؟".

ولكن لماذا كلُّ ذلك؟ مرّة أخرى من أجلنا ولكي يخدمنا. ولكي نتذكّر، عندما نشعر بأنّه ما من مخرج أمامنا وبأنّنا قد بلغنا إلى طريق مسدود بدون نور ولا مخرج، وعندما يبدو لنا أنّ الله حتّى لا يجيبنا، بأنّنا لسنا وحدنا. إنّ يسوع قد اختبر التّرك الكامل، الحالة الأغرب بالنّسبة له، لكي يتضامن معنا بشكل كامل. لقد فعل ذلك من أجلي ومن أجلك، ولكي يقول لك: "لا تخف لست وحدك. لقد اختبرتُ ضيقَكَ وعذابك لكي أكون دائمًا بقربك". إلى هذه الدّرجة بلغت خدمة يسوع لنا، لقد نزل إلى عمق أقسى آلامنا وصولاً إلى الخيانة والتّرك. واليوم في مأساة الوباء وإزاء العديد من الضّمانات الّتي تنهار وتتحطّم وأمام العديد من الانتظارات الّتي لم تتحقّق وفي شعور التّرك الّذي يعصر قلوبنا يقول يسوع لكلِّ فرد منّا: "تشجّع إفتح قلبك لمحبّتي وستشعر بتعزية الله الّذي يعضدك".

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ماذا يمكننا أن نفعل إزاء الله الّذي خدمنا إلى أن اختبر الخيانة والتّرك؟ يمكننا ألّا نخون ما قد خُلقنا من أجله وألّا نترك ما يهمّ. نحن في العالم لنحبّه ونحبّ الآخرين، كلّ شيء يزول أمّا هذا فيبقى ويدوم. إنّ المأساة الّتي نعيشها تدفعنا لكي نأخذ على محمل الجدّ ما هو جدّي. لأنّ الحياة تُقاس بالحبّ. لذلك وخلال هذه الأيّام المقدّسة لنقف في البيت أمام المصلوب، مقياس محبّة الله لنا. وأمام الله الّذي يخدمنا وصولاً إلى بذل حياته من أجلنا لنطلب نعمة أن نعيش لنخدم. لنحاول أن نتواصل مع الّذي يتألّم والوحيد والمعوز، ولا نفكِّرنَّ فقط بما ينقصنا وإنّما بالخير الّذي يمكننا القيام به.

هوذا عبدي الّذي أعضده. إنَّ الآب الّذي عضد يسوع في آلامه يشجّعنا نحن أيضًا في خدمتنا. ليس من السّهل بالتّأكيد أن نحبّ ونصلّي ونسامح ونعتني بالآخرين في العائلة والمجتمع وقد يبدو لنا نوعًا من درب الصّليب، لكن درب الخدمة هي الدّرب الرّابحة الّتي خلّصتنا وتخلّص حياتنا. وهذا ما أريد أن أقوله بشكل خاصّ للشّباب في هذا اليوم الّذي يُخصّص لهم منذ خمسة وثلاثين سنة. أيّها الأصدقاء الأعزّاء، أنظروا إلى الأبطال الحقيقيّين الّذين يظهرون خلال هذه الأيّام: ليسوا الّذين يتمتّعون بالشّهرة أو بالمال والنّجاح وإنّما الّذين يبذلون ذواتهم من أجل خدمة الآخرين. إشعروا أنتم أيضًا بالدّعوة لكي تخاطروا بحياتكم ولا تخافوا من أن تبذلوها في سبيل الله والآخرين وهذا سيكون ربح لكم! لأنّ الحياة هي عطيّة ننالها عندما نبذل ذواتنا في سبيل الآخرين ولأنّ الفرح الأكبر هو أن نقول نعم للحبّ بدون حسابات، كما فعل يسوع من أجلنا".