البابا فرنسيس: الإضطهاد هو مكان التّحرّر من عبوديّة النّجاح والمجد الباطل ومساومات العالم
"هذا التّطويب يعلن السّعادة عينها الّتي يعلنها التّطويب الأوّل: ملكوت السّماوات هو للمُضطهدين كما هو لفقراء الرّوح؛ ونفهم هكذا أنّنا وصلنا إلى ختام مسيرة موحّدة توضّحت خلال الإعلانات السّابقة. فقر الرّوح والبكاء والوداعة والعطش إلى القداسة والرّحمة وطهارة القلب وأعمال السّلام، جميع هذه الأمور يمكنها أن تقود إلى الاضطهاد بسبب المسيح، ولكنّ هذا الاضطهاد في النّهاية هو دافع للفرح ولمكافأة كبيرة في السّماوات. إنّ درب التّطويبات هي مسيرة فصحيّة تقود من الحياة بحسب العالم إلى الحياة بحسب الله، ومن حياة يقودها الجسد– أيّ الأنانيّة– إلى حياة يقودها الرّوح القدس.
لا يمكن للعالم، بأصنامه وتسوياته وأولويّاته أن يوافق على هذا الأسلوب من الحياة. إنّ "هيكليّات الخطيئة" والّتي غالبًا ما ينتجها الذّهن البشريّ والغريبة عن روح الحقّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه، لا يمكنها إلّا أن ترفض الفقر أو التّواضع أو الطّهارة وتعلن الحياة بحسب الإنجيل كخطأ أو مشكلة وبالتّالي كشيء ينبغي إبعاده وإقصاؤه.
إذا كان العالم يعيش بحسب المال فكلُّ من يُظهر أنّه بإمكان الحياة أن تتحقّق في العطاء والتّخلّي يصبح إزعاجًا لنظام الجشع. وكلمة "إزعاج" هذه هي أساسيّة لأنَّ الشّهادة المسيحيّة، والّتي قد تساعد العديد من الأشخاص وتجعلهم يعيشونها، تزعج الّذين يعيشون بحسب ذهنيّة العالم ويعتبرونها توبيخًا لهم. وبالتّالي عندما تظهر القداسة وحياة أبناء الله نجد في ذلك الجمال شيئًا يُزعج ويدعو إلى اتّخاذ موقف: إمّا أن نسمح لذلك الأمر بأن يُسائلنا وننفتح على الخير أو نرفض ذلك النّور ونقسّي قلوبنا وصولاً إلى المعارضة والتّعنُّت. لكنَّ هذا الأمر يُظهر أنّ مأساة الاضطهاد هي أيضًا مكان التّحرّر من عبوديّة النّجاح والمجد الباطل ومساومات العالم. بماذا يفرح الّذي يرفضه العالم بسبب المسيح؟ بأنّه وجد ما هو أكثر قيمة من العالم بأسره. في الواقع: "ماذا يَنفَعُ الإِنسانَ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّه وخَسِرَ نَفْسَه؟".
من المؤلم أن نُذكّر، أنّ هناك في هذه المرحلة العديد من المسيحيّين الّذين يعانون الاضطهاد في أماكن مختلفة من العالم، وعلينا أن نرجو ونصلّي لكي يتوقّف عذابهم في أسرع وقت ممكن. لنعبّر لإخوتنا وأخواتنا هؤلاء عن قربنا: نحن جسد واحد وهؤلاء المسيحيّون هم الأعضاء الدّامية لجسد المسيح الّذي هو الكنيسة. لكن علينا أن نتنبّه لكي لا نقرأ هذه التّطويبات بموقف الضّحايا والرّثاء للذّات. في الواقع، إنّ ازدراء النّاس ليس على الدّوام مرادفًا للاضطهاد: فبعد أن قال يسوع إنّ المسيحيّين هم "ملح الأرض" يحذّر من خطر أن يفقد الملح طعمه وإلّا فالملح لن "يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلّا لأَنْ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس". وبالتّالي فهناك ازدراء أيضًا وهو بسببنا، عندما نفقد طعم المسيح والإنجيل.
علينا أن نكون أمناء لدرب التّطويبات الوديع لأنّه هو الّذي يحملنا لكي نكون خاصّة المسيح في العالم. وبالتّالي من الوجيه أن نذكّر بمسيرة القدّيس بولس: عندما كان يعتقد بأنّه صالح كان في الواقع مُضطَهِد، ولكن عندما اكتشف أنّه مُضطَهِد أصبح رجل حبّ يتحمّل بفرح العذابات والاضطهادات الّتي كان يتعرّض لها.
إنّ التّهميش والاضطهاد، إن سمح لنا الله بهذه النّعمة، يجعلاننا نتشبّه بالمسيح المصلوب ونشترك بآلامه وهما علامة الحياة الجديدة. وهذه الحياة هي حياة المسيح نفسها، الّذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا ويكون "محْتَقَرًا وَمَخْذُولًا مِنَ النَّاسِ". يمكن لقبول روحه أن يجعلنا نحمل محبّة كبيرة في قلوبنا لنقدّمها إلى العالم بدون مساومات وتسويات مع خداعه ونقبل رفضه لنا. إنّ التّسويات مع العالم هي خطيرة على الدّوام والمسيحيّ معرّض لتجربة أن يساوم مع العالم وروح العالم؛ وبالتّالي فرفض التّسويات والمساومات والسّير في درب يسوع المسيح هما حياة ملكوت السّماوات، والفرح الأعظم والسّعادة الحقيقيّة. من ثمَّ نحن نجد في الاضطهادات حضور يسوع الّذي يرافقنا على الدّوام ويعزّينا وقوّة الرّوح القدس الّذي يساعدنا على المضيّ قدمًا؛ فلا نيأسنَّ أبدًا عندما تجذب الحياة الصّادقة والمطابقة للإنجيل الاضطهاد للنّاس لأنّ الرّوح القدس هو الّذي يعضدنا في هذه الدّرب".
وأنهى البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعيّ متوقّفًا عند عيد القدّيسة كاترين السّيانيّة، شفيعة إيطاليا، فقال: "إنّ هذه المرأة العظيمة قد استقت من الشّركة مع يسوع شجاعة العمل والرّجاء الّذي لا ينضب الّذي عضدها في السّاعات الأكثر صعوبة، حتّى عندما بدا أنّ كلّ شيء قد انتهى، وسمحت لها بأن بقوّة إيمانها تؤثِّر على الآخرين حتّى على أعلى المستويات المدنيّة والكنسيّة. ليساعد مثالها كلّ فرد منّا لكي يعرف أن يقرن بصدق مسيحيّ المحبّة العميقة للكنيسة والعناية الفعّالة لصالح الجماعة المدنيّة لاسيّما في زمن المحنة هذا."