البابا فرنسيس: أعطنا يا ربّ الشّجاعة لكي نغيّر الدّرب ونتبع إرادتك لا فرصنا
وتخلّلت الاحتفال عظة للأب الأقدس استهلّها بالقول، نقلاً "فاتيكان نيوز": "قبل أن نتشارك بعض الأفكار، أودّ أن أعبّر عن امتناني لصاحب الغبطة المتروبوليت بوليكاربوس، ممثّل البطريركيّة المسكونيّة، وصاحب السّيادة المطران إيان إرنست، الممثّل الشّخصيّ لرئيس أساقفة كانتربري في روما، ولممثّلي الجماعات المسيحيّة الأخرى الحاضرة. كما وأشكركم جميعًا أيّها الإخوة والأخوات لمجيئكم للصّلاة. أحيّي بشكل خاصّ طلّاب المعهد المسكونيّ في بوسّيه، الّذين يعمّقون معرفتهم بالكنيسة الكاثوليكيّة؛ والطّلّاب الأنغليكان من كلّيّة ناشوتا بالولايات المتّحدة الأميركيّة. والطّلّاب الأرثوذكس والأرثوذكس الشّرقيّين الّذين يدرسون بمنحة دراسيّة مقدّمة من لجنة التّعاون الثّقافيّ مع الكنائس الأرثوذكسيّة، النّاشطة في مجلس تعزيز وحدة المسيحيّين، والّتي أشكرها. لنقبل رغبة يسوع الصّادقة، الّذي يريدنا "واحدًا"، ولنسر بنعمته نحو الوحدة الكاملة!
في هذه المسيرة يساعدنا المجوس. لننظر هذه اللّيلة إلى مسارهم، الّذي يتكوّن من ثلاث مراحل: يبدأ من الشّرق، ويمرّ بأورشليم ويصل أخيرًا إلى بيت لحم. أوّلاً انطلق المجوس "من الشّرق"، لأنّهم هناك رأوا النّجم. وإنطلقوا في الرّحلة من الشّرق، من حيث يشرق ضوء الشّمس، ولكنّهم ذهبوا بحثًا عن نور أكبر. هؤلاء الحكماء لم يكتفوا بمعرفتهم وتقاليدهم، ولكنّهم كانوا يريدون المزيد. لذلك واجهوا رحلة محفوفة بالمخاطر، يحرّكهم قلق البحث عن الله. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنتبع نحن أيضًا نجم يسوع! ولا نسمحنَّ بأن يصرفنا عنه وهج العالم، والنّجوم المتلألئة وإنّما المتساقطة. لا نتبعنَّ صيحات اللّحظة، والشُّهب الّتي تنطفئ؛ لا نلاحقنَّ تجربة التّألّق بنورنا الخاصّ، أيّ أن ننغلق على أنفسنا في مجموعتنا ونحافظ على أنفسنا. لتكن أنظارنا ثابتة في السّماء، على نجم يسوع، لنتبعه ولنتبع إنجيله ودعوته إلى الوحدة، دون أن نقلق كم ستكون طويلة ومتعبة الرّحلة لكي نبلغها بشكل كامل. لنرغب ونسرّ معًا ولندعم بعضنا بعضًا على مثال المجوس. غالبًا ما يصوّرهم التّقليد بملابس متنوّعة تمثّل شعوبًا مختلفة. ويمكننا أن نرى فيهم انعكاسًا لتنوّعنا، ولمختلف التّقاليد والخبرات المسيحيّة، وإنّما أيضًا لوحدتنا، الّتي تولد من الرّغبة عينها: النّظر إلى السّماء والسّير معًا على الأرض. يجعلنا الشّرق أيضًا نفكّر في المسيحيّين الّذين يعيشون في مناطق مختلفة مزّقتها الحرب والعنف. لقد أعدَّ مجلس كنائس الشّرق الأوسط الكتيِّب لأسبوع الصّلاة هذا. إنّ إخوتنا وأخواتنا هؤلاء يواجهون العديد من التّحدّيات الصّعبة، ومع ذلك هم يعطوننا الرّجاء بشهادتهم: فيذكّروننا أنّ نجم المسيح يضيء في الظّلام ولا يغيب؛ وأنّ الرّبّ يرافقنا من العُلى ويشجّع خطواتنا. وحوله، في السّماء، يتألّق العديد من الشّهداء معًا، دون تمييز في الطّوائف ويظهرون لنا على الأرض دربًا واضحًا، درب الوحدة!
ثانيًا من الشّرق وصل المجوس إلى أورشليم يحملون رغبة الله في قلوبهم قائلين: "لقد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه". ولكن من رغبة السّماء عادوا إلى واقع الأرض القاسي: "فلمَّا بلَغَ الخَبَرُ المَلِكَ هيرودُس- يؤكِّد الإنجيل- اِضْطَرَبَ واضطَرَبَت مَعه أُورَشليمُ كُلُّها". في المدينة المقدّسة، وبدل من أن يروا انعكاس نور النّجم، اختبر المجوس مقاومة قوى الظّلام في العالم. فهيرودس لا يشعر وحده بأنّه مُهدّد من حداثة ملوكيّة مختلفة عن تلك الّتي أفسدتها السّلطة الدّنيويّة، وإنّما أورشليم بأسرها اضطربت لإعلان المجوس. في طريقنا نحو الوحدة أيضًا، قد يحدث أن نتوقّف للسّبب عينه الّذي شلَّ هؤلاء الأشخاص: الاضطراب، والخوف. إنّه الخوف من الحداثة الّتي تهزُّ العادات والضّمانات الّتي اكتسبناها، إنّه الخوف من أن يزعزع الآخر استقرار تقاليدي ومخطّطاتي الثّابتة. ولكن، في الجذور، إنّه الخوف الّذي يسكن قلب الإنسان، والّذي يريد الرّبّ القائم من بين الأموات أن يحرّرنا منه. لنسمح بأن يتردّد على درب مسيرتنا نحو الشّركة صدى دعوته الفصحيّة لنا: "لا تخافوا". لا نخافنَّ من أن نضع الأخ قبل مخاوفنا! إنَّ الرّبّ يرغب في أن نثق في بعضنا البعض وأن نسير معًا، على الرّغم من ضعفنا وخطايانا، على الرّغم من أخطاء الماضي والجراح المتبادلة.
تشجّعنا قصّة المجوس في هذا الأمر أيضًا. في أورشليم، مكان خيبة الأمل والمقاومة، حيث يبدو أنّ المسار الّذي تشير إليه السّماء يتكسّر على الجدران الّتي أقامها الإنسان، يكتشفون الطّريق إلى بيت لحم. فالكَهَنَة وكَتَبَة الشَّعبِ هم الّذين يقدّمون الإرشادات ويتفحّصون الكتب المقدّسة؛ والمجوس قد وجدوا يسوع ليس بفضل النّجم وحسب الّذي كان قد اختفى في هذه الأثناء؛ لقد كانوا بحاجة إلى كلمة الله. ونحن المسيحيّون أيضًا لا يمكننا أن نصل إلى الرّبّ بدون كلمته الحيّة والفعّالة. فهي قد أُعطيَت لشعب الله بأكمله لكي يقبلها ويصلّيها ويتأمَّل فيها معًا. لذلك لنقترب من يسوع من خلال كلمته، وإنّما لنقترب أيضًا من إخوتنا من خلال كلمة يسوع، وسيُشرق نجمه مُجدّدًا على دربنا.
ثالثًا هذا ما حدث للمجوس الّذين بلغوا إلى المرحلة الأخيرة: بيت لحم. هناك دخلوا البيت وجَثَوا للطّفل ساجِدين. هكذا تنتهي رحلتهم: معًا، في البيت عينه، في العبادة. هكذا يستبق المجوس تلاميذ يسوع، المختلفين عن بعضهم البعض وإنّما المتّحدين مع بعضهم البعض الّذين في نهاية الإنجيل يسجدون أمام القائم من بين الأموات على جبل الجليل. وهكذا يصبحون علامة نبويّة لنا، نحن الّذين نرغب في الرّبّ، ورفقاء سفر على دروب العالم، وباحثين من خلال الكتاب المقدّس عن علامات الله في التّاريخ. بالنّسبة لنا أيضًا، لا يمكن أن تتحقّق الوحدة الكاملة، في البيت عينه، إلّا من خلال عبادة الرّبّ. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، إنَّ المرحلة الحاسمة من المسيرة نحو الشّركة الكاملة تتطلّب صلاة مكثّفة، وعبادة الله.
لكنَّ المجوس يذكّروننا أيضًا أنّه لكي نعبد هناك خطوة علينا اتّخاذها: يجب علينا أوّلاً أن نسجد. هذا هو الدّرب، الانحناء والتّنازل، وأن نترك مطالبنا جانبًا لكي نترك الرّبّ وحده في المحور. كم من مرّة كان الكبرياء هو العقبة الحقيقيّة أمام الشّركة! لقد تحلّى المجوس بالشّجاعة لكي يتركوا في بيوتهم الهيبة والسّمعة لكي ينحنوا وينزلوا في بيتِ بيتَ لحم الصّغير والفقير؛ وهكذا اكتشفوا "فَرحًا عَظيمًا جِدًّا". التّنازل، والتّرك وتبسيط الأمور: لنطلب هذه اللّيلة من الله هذه الشّجاعة، شجاعة التّواضع، الدّرب الوحيد لكي نصل إلى عبادة الله في البيت عينه وحول المذبح عينه.
في بيت لحم، بعد أن جثوا ساجدين، فتَح المجوس حَقائِبَهم وأَخرجوا منها ذَهبًا وبَخورًا ومُرًّا. يذكّرنا هذا الأمر بأنّنا بعد أن نكون قد صلّينا معًا فقط، وأمام الله فقط، نتنبّه في نوره حّقًا للكنوز الّتي يملكها كلّ فرد منّا. لكنّها كنوز تنتمي للجميع وعلينا أن نقدّمها لبعضنا البعض ونتشاركها. إنّها في الحقيقة مواهب يمنحها الرّوح القدس من أجل الخير العامّ، ولبنيان شعبه ووحدته. ونحن نتنبّه لهذا الأمر في الصّلاة، وإنّما أيضًا في الخدمة: عندما نعطي للمحتاجين نحن نقدّم ليسوع، الّذي يتماثل مع الفقراء والمهمّشين؛ وهو يوحّدنا فيما بيننا.
ترمز هدايا المجوس إلى ما يرغب الرّبّ في أن يناله منّا. علينا أن نُعطي الذّهب لله، العنصر الأثمن أيّ علينا أن نعطيه المركز الأوّل في حياتنا. وعلينا أن نوجّه أنظارنا إليه وليس إلى أنفسنا، إلى إرادته وليس إلى إرادتنا وإلى دروبه وليس إلى دروبنا. إذا كان الرّبّ حقًّا في المقام الأوّل، فإنّ خياراتنا، حتّى تلك الكنسيّة، لا يمكنها أن تستند إلى سياسات العالم، وإنّما إلى رغبات الله. ومن ثمّ هناك البخّور الّذي يذكِّر بأهمّيّة الصّلاة، الّتي ترتفع إلى الله كبخور. لا نتعبنَّ أبدًا من الصّلاة لبعضنا البعض ومع بعضنا البعض. أخيرًا، يُعيدنا المرّ، الّذي سيُستخدم لتكريم جسد يسوع المنزل عن الصّليب، إلى العناية بجسد الرّبّ المتألّم، الممزّق في أعضاء الفقراء. لنخدم المعوزين، ولنخدم معًا يسوع الّذي يتألم!
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنقبل توجيهات المجوس لمسيرتنا، ولنتشبّه بهم هم الّذين انصَرَفوا في طَريقٍ آخَرَ إِلى بِلادِهم. نعم، على مثال شاول قبل لقائه بالمسيح، نحن نحتاج إلى أن نغيِّر طريقنا، ونعكس مسار عاداتنا ومصالحنا لكي نجد الدّرب الّتي يُظهرها الرّبّ لنا، درب التّواضع والأخوَّة والعبادة. أعطنا يا ربّ الشّجاعة لكي نغيِّر الدّرب ونرتدَّ ونتبع إرادتك لا فُرصنا، ونمضي قدمًا معًا، نحوك، أنت الّذي تريد بروحك أن تجعلنا واحدًا."