الفاتيكان
28 آب 2025, 05:00

البابا: حتّى في ظلمة المحنة محبّة الله تسندنا

تيلي لوميار/ نورسات
في تعليم البابا لاون الرّابع عشر لهذا الأسبوع، وضمن سلسلة "يسوع المسيح رجاؤنا"، توقّف الأب الأقدس خلال المقابلة العامّة عند "فصح يسوع"، وتحديدًا عند تسليمه، والّذي من خلاله ظهر نور الحبّ الكبير.

وفي تفاصيل تعليمه، قال البابا بحسب الموقع الرّسميّ للكرسيّ الرّسوليّ: "نتوقّف اليوم عند مشهد هو بداية آلام يسوع: لحظة اعتقاله في بستان الزّيتون. يوحنّا الإنجيليّ، وبأسلوبه العميق المعتاد، لا يقدّم لنا يسوع خائفًا، أو هاربًا أو مختبئًا، بل العكس، يقدّمه لنا إنسانًا حرًّا، يتقدّم ويتكلّم، ويواجه وجهًا لوجه السّاعة الّتي فيها يمكن أن يظهر نور الحبّ الكبير.

"وكانَ يسوعُ يَعلَمُ جَميعَ ما سَيَحدُثُ له، فخَرَجَ وقالَ لَهم: "مَن تَطلُبون؟"" (يوحنّا 18، 4). كان يسوع يعلَم. مع ذلك، اختار ألّا يتراجع. فأسلم نفسه. لا عن ضعف، بل عن محبّة. محبّة كاملة، وناضجة، ولا تخشى الرَّفض. لم يُلقوا القبض عليه مرغمًا، بل هو تقدَّم ليمسكوا به. لم يكن ضحيّة اعتقال، بل بادر هو وأسلم نفسه. في هذه الحركة منه يتجسّد رجاء الخلاص لإنسانيّتنا: نعرف أنّه يمكننا أن نبقى أحرارًا لأن نحبّ حتّى النّهاية، حتّى في أحلك ساعة.

عندما أجاب يسوع: "أَنا هو"، سقط الجنود على الأرض. إنّه مشهد غامض، لأنّ هذا التّعبير في وحي الكتاب المقدّس، يُذكّر باسم الله نفسه: "أَنا هو". كشف يسوع أنّ حضور الله يتجلّى بالتّحديد حيث تعيش البشريّة الظّلم، والخوف، والوَحدَة. وهناك، يكون النّور الحقيقيّ مستعدًّا لأن يسطع ولا يخاف أن تطغى عليه الظّلمات.

في قلب الليل، عندما يبدو لنا أنّ كلّ شيء ينهار، يُبيّن لنا يسوع أنّ الرّجاء المسيحيّ ليس هربًا، بل هو قرار. هذا الموقف هو ثمرة صلاة عميقة لا نطلب فيها من الله أن يجنّبنا الألم، بل أن يمنحنا القوّة لنُثابر في المحبّة، ونحن نعلَم أنّ الحياة الّتي نبذلها بحرّيّة وبحُبّ، لا يمكن لأيّ أحد أن ينزعها منّا.

"إِذا كُنتُم تَطلُبوني أَنا فدَعُوا هؤلاءِ يَذهَبون" (يوحنّا 18، 8). لم يهتمّ يسوع بأن يخلّص نفسه في لحظة اعتقاله: أراد فقط أن يتمكّن أصدقاؤه من أن يذهبوا أحرارًا. هذا يُبيّن لنا أنّ تضحيته هي فعلُ محبّة حقيقيّة. سمح يسوع للحرس أن يُمسكوا به ويسجنوه فقط لكي يترك تلاميذه أحرارًا.

عاش يسوع كلّ يومٍ من أيّام حياته استعدادًا لساعة هذه المأساة المجيدة. لذلك، عندما جاءت، كان قويًّا ولم يبحث عن مَهرب. كان قلبه يعلَم جيّدًا أنّ بذله حياته حبًّا ليس فشلًا، بل فيه خصوبة سِرِّية. مثل حبّة الحنطة الّتي لا تبقى وحدها إن سقطت على الأرض، بل تموت وتأتي بثمر كثير.

شَعَرَ يسوع أيضًا بالاضطراب أمام مسيرة كانت تبدو أنّها تقود فقط إلى الموت والنّهاية. لكنّه كان مقتنعًا في الوقت نفسه أنّ من يفقد حياته حبًّا يجدها في النّهاية. هنا يكمن الرّجاء الحقيقيّ: لا في تفادينا للألم، بل في إيماننا بأنّ بذرة حياة جديدة تختبئ حتّى في أشدّ الآلام ظلمًا.

ونحن؟ كم مرّة ندافع عن حياتنا، ومشاريعنا، وأماننا، ولا نُدرك أنّنا بقيامنا بذلك نبقى وحدنا. منطق الإنجيل مختلف: ما نُعطيه هو فقط الّذي يُزهر، والمحبّة المجّانيّة فقط يُمكنها أن تُعيد الثّقة، حتّى حيث يبدو أنّ كلّ شيء قد فُقد.

إنجيل مرقس يروي لنا أيضًا عن شابّ هرب عريانًا، عندما تمّ اعتقال يسوع (مرقس 14، 51). إنّها صورة غامضة، لكنّها مُعبّرة جدًّا. نحن أيضًا، في محاولتنا اتّباع يسوع، نمرّ بلحظات نُفاجأ فيها ونُجرَّد من يقيننا. إنّها أصعب اللّحظات، تراودنا فيها التّجربة لنترك طريق الإنجيل لأنّ المحبّة تبدو لنا رحلة مستحيلة. مع ذلك، في نهاية الإنجيل، سيكون شابّ أيضًا، ليعلن القيامة للنّسوة، وليس عريانًا، بل مرتديًا ثوبًا أبيض.

هذا هو رجاء إيماننا: خطايانا وتردّدنا لا تمنع الله من أن يغفر لنا ويُعيد إلينا الرّغبة في أن نُكمل مسيرة اتّباعنا له، ليجعلنا قادرين على أن نبذل حياتنا من أجل الآخرين.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنتعلّم نحن أيضًا أن نسلِّم أنفسنا لإرادة الآب الّذي يحِبُّنا، ونجعل حياتنا جوابًا على الخير الّذي نلناه. ففي الحياة، لا حاجة لأن يكون كلّ شيء تحت السّيطرة. يكفي أن نختار كلّ يوم أن نحبّ بحرّيّة. هذا هو الرّجاء الحقيقيّ: أن نعلم أنّه حتّى في ظلمة المحنة، محبّة الله تسندنا وتُنضج فينا ثمار الحياة الأبديّة."