الفاتيكان
11 نيسان 2020, 05:30

البابا ترأّس رتبة سجدة الصّليب في الجمعة العظيمة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البابا فرنسيس مساء الجمعة العظيمة رتبة سجدة الصّليب في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، وتخلّلها عظة ألقاها واعظ القصر الرّسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا وقد استهلّها بالقول بحسب "فاتيكان نيوز":

"كان القديس غريغوريوس الكبير يقول إنَّ الكتاب المقدّس ينمو مع الذين يقرؤونه، أيّ أنّه يعبّر عن معاني جديدة على الدّوام بحسب الأسئلة التي يحملها الإنسان في قلبه؛ ونحن هذا العام نقرأ رواية الآلام مع سؤال لا بل صرخة من القلب ترتفع من جميع أنحاء الأرض.

إنّ ما سمعناه مجدّدًا هو رواية أكبر شرٍّ تمَّ ارتكابه على الأرض، ويمكننا أن ننظر إليه من زاويتين مختلفتين أيّ من الأسباب أو من النّتائج. فإن توقّفنا عند الأسباب التّاريخيّة لموت المسيح فقط نتشوّش ويتعرّض كلّ فرد منّا لتجربة أن يقول على مثال بيلاطس: " أَنا بَريءٌ مِن هذا الدَّم، أَنتم وشَأنُكم فيه". لكنَّ الصليب يُفهم بشكل أفضل انطلاقًا من نتائجه؛ وما كانت نتائج موت المسيح؟ بُرِّرْنا بِالإِيمان به، حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ وتصالحنا معه، وامتلأنا برجاء حياة أبديّة.

لكن هناك نتيجة يساعدنا الوضع الحالي على فهمها بشكل خاصّ: صليب المسيح قد غيّر معنى العذاب والألم البشريّ. وليس فقط ألم الأشخاص الذين يؤمنون وإنّما كلَّ ألم بشريّ لأنّه قد مات من أجلنا جميعًا: "وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين". كتب القدّيس يوحنّا بولس الثّاني بعد الاعتداء الذي تعرّض له: "التّألُّم يعني أن يصبح المرء حساسًا لعمل قوى الله الخلاصيّة التي تُقدّم للبشريّة في المسيح". فبفضل صليب المسيح أصبح الألم، بطريقته، سرَّا شاملاً لخلاص الجنس البشريّ.    

ما هو النّور الذي يلقيه هذا كلّه على الوضع المأساويّ الذي نعيشه؟ وهنا أيضًا علينا أن ننظر إلى النّتائج وليس إلى الأسباب، وليس فقط إلى النّتائج السّلبيّة التي نسمعها يوميًّا في نشرات الأخبار وإنّما تلك الإيجابيّة أيضًا التي يمكننا أن نفهمها فقط من خلال ملاحظة متنبّهة. إنّ وباء الكورونا قد أيقظَنا فجأة من خطر أكبر كان يتعرض له الأفراد والبشريّة وهو وهمُ القدرة. ولكن كان كافيًا أصغر عنصر شنيع في الطّبيعة، فيروس، لكي يذكِّرنا بأنّنا لسنا خالدين، وبأنّ السلطة العسكريّة والتكنولوجيّة لا تكفيان لتخليصنا. ويقول المزمور: "إِنسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلَا يَفهَمُ يُشبِهُ البَهَائِمَ التِي تُبَادُ". كم هي حقيقية هذه الكلمات.

إنَّ الله يقلب مشاريعنا وسكينتنا لينقذنا من الهاوية التي لا نراها. ولكن علينا أن نتنبّه لكي لا ننخدع. لأنّ الله هو حليفنا وليس حليف الفيروس، نقرأ في الكتاب المقدّس: "لِأَنِّي عَرَفْتُ الأفكَارَ التِي أَنَا مُفتَكِرٌ بِهَا عَنكُم، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفكَارَ سَلَامٍ لَا شَرٍّ". إنَّ ذلك الذي بكى يومًا على موت لعازر، يبكي اليوم أيضًا بسبب الوباء الذي حلَّ بالبشريّة. نعم الله يتألّم ككلّ أب وأمّ. وعندما سنكتشف هذا الأمر يومًا سنشعر بالخجل بسبب جميع الاتّهامات التي وجّهناها له في حياتنا.

أيُعقل أن يكون الله الآب قد أراد أن يموت ابنه على الصّليب لكي يحصل على خير ما؟ لا! وإنّما وبكلِّ بساطة سمح للحرّيّة البشريّة أن تأخذ مسارها، وجعلها تخدم مشروعه ولا مشروع البشر. هذا الأمر يصلح أيضًا للشّرور الطبيعية والزلازل والأوبئة. إنّ الله لا يُسببها ولكنّه قد أعطى الطّبيعة أيضًا نوعًا من الحرّيّة، تختلف بالتّأكيد عن حرّيّة الإنسان، ولكنّها تبقى شكلاً من أشكال الحرّيّة، إنّها حريّة التّطوّر بحسب قواعد النّمو خاصّتها.

أمّا الثّمرة الإيجابيّة الأخرى للأزمة الصّحّيّة الحاليّة هي شعور التّضامن. منذ متى شعر البشر في جميع الأمم بأنّهم متّحدين بهذا الشّكل كما في مرحلة الألم هذه؟ إنّ الفيروس لا يعرف الحدود، وفي لحظة هدم جميع الحواجز واختلافات العُرق والدّين والغنى والسّلطة. لا يجب أن نعود إلى الوراء بعد انتهاء هذه المرحلة كما حثّنا الأب الأقدس ونضيّع هذه الفرصة. لا نسمحنَّ بأن يذهب سدى ألم العديد من العاملين الصحّيّين والتزامهم البطوليّ.

"فَيَقضِي بَيْنَ الأمَمِ وَيُنصِفُ لِشُعُوبٍ كَثِيرِينَ، فَيَطبَعُونَ سُيُوفَهُم سِكَكًا وَرِمَاحَهُم مَنَاجِلَ. لَا تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ الحرب فِي مَا بَعْدُ" لقد حان الوقت لتحقيق شيء من نبوءة أشعيا هذه التي تنتظر البشريّة تحقيقها. لنقل كفى لهذا السّباق المأساويّ إلى التّسلّح. أصرخوا أيّها الشّباب بكل ما أوتيكم من قوّة لأنّ مصيركم على المحكّ، ولنوجّه الموارد التي تُخصّص للتّسلّح من أجل أهداف أكثر إلحاحًا: كالصّحّة والنّظافة والغذاء والكفاح ضدّ الفقر والعناية بالخليقة.

تقول لنا كلمة الله ما هو أوّل شيء ينبغي علينا فعله في لحظات كهذه: علينا أن نصرخ إلى الله، وهو يضع على شفاهنا الكلمات التي ينبغي علينا أن نصرخ بها إليه: "اِستَيقِظ! لِمَاذَا تَتَغَافَى يَا رَبُّ؟... لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ وَتَنْسَى مَذَلَّتَنَا وَضِيقَنَا؟...قُمْ عَوْنًا لَنَا وَٱفْدِنَا مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ"؛ "أَما تُبالي أَنَّنا نَهلِك؟". هل يُعقل أن الله يحب أن نترجاه لكي يمنحنا نعمه؟ هل يمكن لصلاتنا أن تغيّر الله ومخططاته؟ لا ولكن هناك أمور قد قرّر الله أن يمنحنا إيّاها بالإضافة إلى نعمته وصلاتنا لكي يتقاسم مع خلائقه استحقاق النّعم التي أنعم بها علينا؛ لا بل هذا ما يطلبه منا: "إِسأَلوا تُعطَوا، أُطلُبوا تَجِدوا، إِقرَعوا يُفتَحْ لكُم"."

وإختتم واعظ القصر الرّسوليّ الأب رانييرو كانتالاميسا عظته بالقول: "لقد تنبأ يسوع لتلاميذه قائلاً: "كما بَقِيَ يُونانُ في بَطنِ الحُوتِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال، فكذلكَ يَبقى ابنُ الإِنسانِ في جَوفِ الأَرضِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال"، وكذلك نحن أيضًا بعض هذه الأيام سنقوم ونخرج من القبور التي هي الآن بيوتنا. لا لكي نعود إلى حياتنا السّابقة كلعازر وإنما لحياة جديدة كيسوع. حياة أكثر أخوّة وإنسانيّة! حياة مسيحيّة!"