الاحترام والتعاون في خدمة الخير الشامل (2)
تابع الكاردينال فرنندو كلامه ومنه نعلم أنّ البابا ورئيس الدولة تشاركا شغفًا بالثقافة، وخصوصًا بالموسيقى الجيّدة، لدرجة أنّ الرئيس نابوليتانو أراد، في مناسبات عدّة، أن يقدّم إلى بندكتس السادس عشر حفلات موسيقيّة ذات قيمة عالية في صالة نيرفي. يضاف إلى ذلك الحفل الموسيقيّ الذي نظّمته السفارة الإيطاليّة لدى الكرسي الرسوليّ في 5 شباط/فبراير 2013 تكريمًا للأب الأقدس والرئيس نابوليتانو. يبدو هذا الحدث اليوم وكأنّه جاء وداعًا تقريبًا: "في هذه السنوات السبع – قال البابا الذي سيعلن في 11 شباط/فبراير 2013 أنّه سيتخلّى عن الخدمة البطرسيّة – التقينا مرّات عدّة وتبادلنا الخبرات والأفكار". وختم: "سأصلّي من أجل إيطاليا".
كان نابوليتانو قد علم للتو وشخصيًّا من الحبر الأعظم أنّ الأخير على وشك التنازل عن كرسي بطرس، لكنّه، كما أخبر معاونيه لاحقًا، لم يفهم أنّ التنازل سيكون فوريًّا إلى هذا الحدّ.
كان لدى بندكتس السادس عشر التزام تجاه المؤسّسات الإيطاليّة ليس بالمجاملة الرسميّة أو العلاقة الرمزيّة، بل بالاحترام والاهتمام العميقيْن؛ تلك الأماكن التي تستذكر الأحداث السعيدة والحزينة من تاريخ البابويّة. أود هنا – قال الكاردينال فيلوني - أن أروي حادثة بارزة تتعلّق باللحظة الدراميّة التي شهدتها إيطاليا، والتي عبّر فيها البابا بندكتس السادس عشر عن مشاعره، بتكتّم مطلق ووضوح تامّ.
في عام 2010، كان البابا في زيارة راعويّة إلى باليرمو (3 تشرين الأوّل/أكتوبر)؛ سافرنا على طول الطريق السريع الذي يوصل من المطار إلى المدينة؛ مررنا عبر كاباسي، النقطة التي قُتل فيها القاضي فالكوني على يد المافيا مع زوجته ومرافقتها. تحدّثتُ إلى البابا وسألته عمّا إذا كان يعتقد أنْ من المناسب التوقّف للصلاة الصامتة القصيرة في طريق العودة. فوافق تمامًا: أحضرنا باقة من الزهور البيضاء، ثمّ نزل البابا من السيّارة وأمام النصب التذكاريّ للمجزرة، صلّى في صمت ووضع الزهور؛ حدث لم يلاحظه أحد تقريبًا من قِبل وسائل الإعلام، ولكنّه اكتسى أهمّيّة كبيرة بالنسبة إلى بندكتس السادس عشر وأثّر بمعق فيّ شخصيًّا...
إهتمّ هذا البابا بتاريخ إيطاليا، ولذلك لم يتجاهل ذكر "المسألة الرومانيّة" على سبيل المثال، ليؤكّد، من جديد، أنّ تسويتها تمّت بطريقة "نهائيّة" مع اتّفاقيّات لاتران في (11 شباط/فبراير 1929)، والتي أصبحت شعارًا لسيادتيْن محترمَتين بشكل متبادل ومستعدّتيْن للتعاون وخدمة الخير الشامل للإنسان والتعايش المدنيّ...
يبدو لي – قال الكاردينال فيلوني - أنّ الرئيس نابوليتانو والبابا بندكتس السادس عشر عاشا حياتهما (القرن العشرين) إلى أقصى حدّ، وقد عبراه في وقت واحد مع مآسيه ومعاناته وفتوحاته؛ ولذلك كانت هناك درجة من التقارب بينهما، حتّى لو عاش كلّ منهما ذلك القرن إمّا في ضوء إيمان واضح، أو في ضوء رؤية سياسيّة مدروسة مليئة بالإنسانيّة. لقد أعجب بندكتس السادس عشر بالرئيس نابوليتانو على وجه التحديد لاستقامته وذكائه السياسيّ، وإحساسه بالتوازن والاحترام الكبير الذي يكنّه ليس فقط لمؤسّسات الجمهوريّة، ولكن أيضًا للكنيسة. وإذا جاز لي أن ألتزم السرّيّة، فقد كنت أشعر أيضًا بأنّني رجل عادل ومتماسك فكريًّا في خلال ولاية الرئيس نابوليتانو. وفي نهاية ولايته، أردت أن أرسل له ملاحظة بسيطة: "شكرًا لك، سيادة الرئيس".
في فناء افتراضيّ، أين كان يمكن للبابا بندكتس السادس عشر أن يجتمع بالرئيس نابوليتانو؟ ربّما أمام باب الهيكل، ربما حرص الرئيس على إلقاء نظرة خاطفة على البابا والاستماع إليه والاستفهام منه عمّا يتماشى مع موقف العلمانيّ المحترم في غرفة الإيمان، وقد انبهر رأس الدولة من ثقافة الأب الأقدس العالية، خصوصًا في الشهادة التي قدّمها بندكتس السادس عشر. ومن هذا الهيكل، الكنيسة، كان البابا راتسينجر هو الوصي اليقظ على الكنيسة حتّى 28 شباط/فبراير 2013، عندما اختار، أن يكون مثل وميض نجم تاريخيّ يخترق السماء من الشرق إلى الغرب، وينزل من عرش بطرس.
بمجرد أن أصبحا فخريّيْن، بندكتوس السادس عشر (28 شباط 2013) والرئيس نابوليتانو (14 كانون الثاني 2015)، أتيحت الفرصة للقاء على انفراد في دير intra moenia vaticana حيث تقاعَدَ البابا جوزيف راتزينغر. وفي الغرفة الصغيرة في الطابق الأوّل حيث كان يستقبل زوّاره وضيوفه، التقى جوزيف راتزينغر، اللاهوتيّ الذي تحدّث عن الله بشكل لم يسبق له مثيل في القرون الأخيرة، بصديقه جورجيو نابوليتانو، المهتمّ بالخطاب الروحيّ؛ ونودّ أن نعتقد –ختم الكاردينال فيلوني - أنّ الإثنين، بعد عبورهما القرن العشرين، كانا يستعدّان للأبديّة، "مسترشديْن بنور النجم عينه" (جريدة أفينييري، 6 آب/أغسطس 2023).