الفاتيكان
26 تموز 2021, 11:15

الأجداد والمسنّون هم الخبز الّذي يغذّي حياتنا!

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس رئيس المجلس البابويّ لتعزيز البشارة الجديدة المطران رينو فيزيكيلا القدّاس الإلهيّ، لمناسبة اليوم العالميّ الأوّل للأجداد والمسنيّن، في بازيليك القدّيس بطرس، ألقى خلاله عظة أعدّها البابا فرنسيس للمناسبة، وقال فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"وفيما كان يسوع جالسًا يعلّم، "رَفَعَ عَينَيه، فرأَى جَمعًا كثيرًا مُقبِلًا إِلَيه. فقالَ لِفيلِبُّس: مِن أَينَ نَشتَري خُبزًا لِيأكُلَ هٰؤلاء؟". إنَّ يسوع لا يكتفي بالتّعليم، ولكنّه يسمح بأن يسائله الجوع الّذي يقيم في حياة النّاس. وهكذا، أشبع الجموع إذ وزّع خَمسَة أَرغِفَةٍ مِن شَعير وسَمَكتين أخذهما من أحد الفتيان. في النّهاية، إذ فَضَلَ الكثير من كِسَر الخبز، طلب من تلاميذه أن يجمعوها، "لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها".

في هذا اليوم، المكرّس للأجداد والمسنّين، أريد أن أتوقّف عند هذه اللّحظات الثّلاث: يسوع الّذي يرى جوع الجموع، يسوع الّذي يقاسم الخبز، ويسوع الّذي يوصي بجمع الكِسَر الّتي فَضَلَت. ثلاث لحظات يمكن تلخيصها في ثلاثة أفعال: الرّؤية والمقاسمة والمحافظة.

الرّؤية: يسلّط الإنجيليّ يوحنّا الضّوء، في بداية الرّواية، على هذا التّفصيل: رَفَعَ يسوعُ عَينَيه، فرأَى جَمعًا كثيرًا مُقبِلاً إِلَيه بعد أن سار طويلاً ليلتقي به. هكذا تبدأ المعجزة: بنظرة يسوع الّذي لا يقف غير مبالٍ أو منشغلاً، بل يشعر بآلام الجوع الّتي تستحوذ على البشريّة المُتعبة. هو يقلق علينا، ويهتمّ بنا، ويريد أن يُشبع جوعنا للحياة والحبّ والسّعادة. وفي عينَي يسوع نرى نظرة الله: إنّها نظرة متنبهة، ترانا، وتتفحص التّطلّعات الّتي نحملها في قلوبنا، وتلاحظ التّعب والإرهاق والرّجاء الّذي به نسير قدمًا. نظرة تفهم حاجة كلِّ فردٍ منّا: لا وجود لجمع مجهول الهويّة في عيني الله وإنّما هناك كلّ شخص مع جوعه. ويسوع يتحلّى بنظرة تأمُّليّة قادرة على أن تتوقّف أمام حياة الآخر وأن تقرأ في داخله.

هذه هي أيضًا نظرة الأجداد والمسنّين حول حياتنا. إنّه الأسلوب الّذي اعتنوا بنا به منذ طفولتنا. وبعد حياة مليئة غالبًا بالتّضحيات، لم يقفوا غير مبالين بنا أو منشغلين عنّا. بل كانت عيونهم متنبهة، مُفعمة بالحنان. وعندما كنّا ننمو، وكنّا نشعر بأنّ لا أحد يفهمنا، أو كانت تحدّيات الحياة تُخيفنا، تنبّهوا لنا ولما كان يتغيّر في قلوبنا، لدموعنا الخفيّة والأحلام الّتي كنّا نحملها في داخلنا. لقد مررنا جميعًا بأحضان أجدادنا الّذين حملونا بين أيديهم. وبفضل هذا الحبّ أيضًا أصبحنا بالغين. ونحن، ما هي نظرتنا إزاء الأجداد والمسنّين؟ متى كانت آخر مرّة قمنا فيها بمرافقة شخص مسنّ أو اتّصلنا به هاتفيًّا لنعبِّر له عن قربنا ونسمح له أن يباركنا بكلماته؟ أنا أتألّم عندما أرى مجتمعًا يركض، منشغلاً وغير مبالٍ، مأخوذًا بأمور كثيرة، وغيرِ قادر على التّوقّف ليلقي نظرة، أو تحيّة، أو لمسة حنان. أخاف من مجتمع نكون فيه جميعًا جمعًا مجهول الهويّة وغير قادرين على أن نرفع نظرنا ونتعرّف على بعضنا البعض. إنّ أجدادنا الّذين غذّوا حياتنا، يجوعون اليوم إلينا: إلى اهتمامنا، وإلى حناننا، إلى الشّعور بقربنا منهم. لنرفع نظرنا نحوهم كما يفعل يسوع معنا.

المقاسمة: بعد أن رأى جوع هؤلاء الاشخاص، أراد يسوع أن يشبعهم. ولكنَّ ذلك حصل بفضل عطيّة فتى شابّ، قدّم أرغفته الخمسة وسمكتين. إنّه لأمر جميل أن يكون في محور هذه المعجزة، الّتي استفاد منها العديد من البالغين- حوالي خمسة آلاف شخص- فتى، شابّ، تقاسم ما كان لديه. هناك اليوم حاجة إلى عهد جديد بين الشّباب والمسنّين، لمقاسمة كنز الحياة المشترك، وللحلم معًا والتّغلّب على صراع الأجيال، لكي نُعدَّ مستقبل الجميع. من دون هذا العهد للحياة والأحلام والمستقبل، نخاطر بأن نموت من الجوع لأنّ العلاقات المحطّمة، والوحدة، والأنانيّة، والقوى المفكِّكة قد ازدادت. غالبًا، ما سلّمنا حياتنا في مجتمعاتنا إلى مبدأ "ليعتنِ كلُّ شخص بنفسه". لكنَّ هذا الأمر يقتل! أمّا الإنجيل فيحثُّنا على مقاسمة ما نحن عليه وما نملكه لأنّه بهذه الطّريقة فقط يمكننا أن نُشبَع. لقد ذكّرتُ مرارًا بما قاله النّبيّ يوئيل حول هذا الموضوع: شباب ومسنّون معًا. الشّباب، أنبياء المستقبل الّذين لا ينسون التّاريخ الّذي أتوا منه. والمسنّون، الحالمون الّذين لا يتعبون أبدًا والّذين ينقلون خبراتهم إلى الشّباب، دون أن يعرقلوا طريقهم. شباب ومسنّون، كنز التّقليد ونضارة الرّوح. شباب ومسنّون معًا. في المجتمع وفي الكنيسة معًا.

المحافظة: بعد أن أكلوا، يقول الإنجيل فضل الكثير من الكِسَر. فأوصاهم يسوع: "اجمعوا ما فَضَلَ مِنَ الكِسَرِ لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها". هكذا هو قلب الله: لا يعطينا أكثر ممّا نحتاج إليه وحسب، بل يهتمّ بألّا يضيع شيء، ولا حتّى كسرة واحدة. إنَّ قطعة صغيرة من الخبز قد تبدو أمرًا لا أهمّيّة له، ولكن في عيني الله لا شيء يجب أن يوضع جانبًا؛ وبالتّالي لا يجب أن يتمَّ إقصاء أحد. إنّها دعوة نبويّة، نحن مدعوّون لكي نردّد صداها اليوم فينا وفي العالم: اجمعوا، واعتنوا وحافظوا. إنَّ الأجداد والمسنّين ليسوا مُخلَّفاتِ حياة، أو فضلات تُلقَى جانبًا. إنّهم قطع الخبز الثّمينة الّتي بقيت على مائدة حياتنا، والّتي يمكنها أن تغذّينا، بعطرٍ قد فقدناه، "عطر الذّاكرة". لا نفقِدنَّ الذّكرى الّتي يحملها المسنّون، لأنّنا أبناء ذلك التّاريخ، وسنذبل من دون جذور. لقد حافظوا علينا خلال مسيرة نموِّنا، والآن جاء دورنا لكي نحافظ على حياتهم، ونخفّف من صعوباتهم، ونصغي إلى احتياجاتهم، ونخلق الظّروف لكي تُصبح مهامهم اليوميّة أسهل ولكي لا يشعروا بالوَحدة. لنسأل أنفسنا: هل قمت بزيارة أجدادي؟ أو المسنّين في عائلتي أو في الحيّ؟ هل استمعت إليهم؟ هل خصّصت لهم بعض الوقت؟" لنحافظ عليهم لكي لا يضيع شيء: لا شيء من حياتهم ومن أحلامهم. هذه هي مهمّتنا اليوم، لكي نتدارك ندم الغد لأنّنا لم نكرّس اهتمامًا كافيًا للّذين أحبّونا ومنحونا الحياة.

أيّها الإخوة والأخوات، الأجداد والمسنّون هم الخبز الّذي يغذّي حياتنا. نحن شاكرون لعيونهم المتنّبهة، الّتي رأتنا، ولأحضانهم وأذرعهم الّتي حملتنا، وأيديهم الّتي رافقتنا ورفعتنا، وللألعاب الّتي لعبوها معنا وللمسات الحنان الّتي عزونا بها. من فضلكم، لا ننسينّهم أبدًا، ولنُقم عهدًا معهم. لنتعلّم أن نتوقّف، ونتعرّف عليهم، ونصغي إليهم. ولا نُقصينَّهم أبدًا. لنحافظ عليهم في الحبّ. ولنتعلّم أن نتقاسم الوقت معهم. فنُصبح أشخاصًا أفضل. ومعًا، شبّان ومسنّون، سنشبع على مائدة المقاسمة الّتي باركها الله."