الأراضي المقدّسة
06 شباط 2020, 15:36

الأب حنّا كلدانيّ يترأّس القدّاس الإلهيّ على جبل التّطويبات في الجليل

نورسات/ الأردنّ
لمناسبة عيد التّطويبات احتفل المؤمنون في الجليل، بقداس إلهيّ ترأّسه النّائب البطريركيّ للّاتين في النّاصرة الأب حنا كلدانيّ، أمام كنيسة التّطويبات بحضور عدد من الكهنة والرّهبان والرّاهبات وطلّاب معهد “أمّ الفادي” الإكليريكيّ وحشد كبير من المؤمنين والحجاج،.بحسب ما نشر موقع البطريركيّة اللّاتينية بالقدس وتاليًا نصّ عظة القدّاس التي ألقاها الأب كلدانيّ

  أيّها الأخوة والأخوات الأحبّاء،

لقد أجرى قداسة البابا فرنسيس، صباح الأربعاء ٢٩ كانون الثّاني ٢٠٢٠، مقابلته العامّة مع المؤمنين في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان واستهلّ تعليمه الأسبوعيّ بالقول: “نبدأ اليوم سلسلة تعاليم جديدة حول التّطويبات في إنجيل القدّيس متى (٥، ١–١١)”. وكأن كلام قداسة البابا يأتي متناغمًا مع احتفالنا اليوم بعيد مزار التّطويبات هنا. ولنشكر الله بأننا نتأمّل اليوم كلام السّيّد المسيح الذي يتمتع بخاصّيّة الجغرافيا المتعلّقة بالتّطويبات التي هي هنا على هذا الجبل المقدّس المشرف على بحيرة طبريا، وبخاصّيّة تلامذة التّطويبات وورثة الرّسل والتّلاميذ الأوائل، أيّ شعب الله في الأرض المقدّسة ولا سّيما الجليل، موطن يسوع وفضاء بشارته الخلاصّية.

إنّ نصّ التّطويبات الذي يفتتح “عظة الجبل” قد أنار حياة المؤمنين وكذلك حياة العديد من غير المؤمنين. فالعديد من النّاس وان لم يتنصروا، فقد تبنّوا في حياتهم وأسلوب معيشتهم وأفعالهم ومشاعرهم موقف السّيّد المسيح ونهجه كما جاء في التّطويبات. من الصّعب ألّا تلمسنا كلمات يسوع هذه وتلمس كلّ إنسان حتّى غير المسيحيّ. إنَّ التّطويبات تحتوي على “بطاقة هويّة” المسيحيّ –هذه هي بطاقة هويّتنا– لأنّها تحدّد وجه يسوع نفسه وأسلوب حياته.

تابع الحبر الأعظم يقول: “سنضع الآن بشكل عامّ إطارًا لكلمات يسوع هذه، وفي التّعاليم المقبلة سنشرح كلُّ تطويب بمفرده. مهمٌّ أوّلًا كيف تمّ إعلان هذه الرّسالة: لما رأى يسوع الجموع التي كانت تتبعه، صعد على الجبل الذي يحيط ببحيرة الجليل وجلس وإذ توجّه إلى تلاميذه أعلن لهم التّطويبات. فالرّسالة إذًا هي موجّهة للتّلاميذ، ولكنّنا نجد الجموع في الأفق أيّ البشريّة بأسرها. إنّها رسالة للبشريّة بأسرها. كذلك، يُذكّر “الجبل” بجبل سيناء حيث أعطى الله الوصايا لموسى.”

أضاف الأب الأقدس يقول: يبدأ يسوع بتعليم شريعة جديدة: أن نكون فقراء، أن نكون ودعاء، أن نكون رحماء… هذه “الوصايا الجديدة” هي أكثر من مجرّد قواعد. في الواقع إنَّ يسوع لا يفرض شيئًا، بل يظهر درب السّعادة –دربه– مكرّرًا ثماني مرات كلمة “طوبى“. يتكوّن كل تطويب من ثلاثة أجزاء. أوّلًا هناك على الدّوام كلمة “طوبى“، وثانيًا، الحالة التي يعيشها من يحقُّ لهم الطّوبى: فقر الرّوح، الحزن، الجوع، العطش إلى البرّ وهكذا ودواليك؛ وثالثًا في الختام سبب التّطويبات الذي تسبقه عبارة “فإنَّ“. “طوبى لهؤلاء فإنَّ…” هكذا هي التّطويبات الثّمانية وسيكون من الجميل أن نحفظها لكي نكرّرها وتبقى في أذهاننا وقلوبنا هذه الشّريعة التي منحنا يسوع إيّاها.

سبب التّطويب ليس الوضع الحاليّ، وإنّما الحالة الجديدة التي ينالها الذين يستحقّون الطّوبى كعطيّة من الله بناء على خيارهم وتشبثهم بالنّهج الذي خطّه السّيّد المسيح، أيّ انحيازهم إلى الجانب الضّعيف من الإنسانيّة، الفقر الوداعة، الاضطهاد. ويقدّم السّيّد المسيح ثمرة هذا الخيار وثمرة هذه المسيرة الرّوحيّة، وهي الشّطر الثّاني من التّطويبات: “فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات“، “فإِنَّهم يُعَزَّون“، “فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض“، وهكذا ودواليك. وهنا يستعمل يسوع غالبًا صيغة المجهول في المستقبل: “يُعَزَّون“، “يرِثونَ الأَرض“، “يُشبَعون“، “يُرْحَمون“، “أَبناءَ اللهِ يُدعَون“.

ولكن ماذا تعني كلمة “طوبى“؟ إنّ الكلمة اليونانيّة الأصليّة، على حسب المختصين بفقه اللّغة اليونانيّة، لا تشير إلى شخص يتمتّع بالرّخاء ويعيش حياة هنيئة، وإنّما إلى شخص يعيش في حالة نعمة ويتقدّم في نعمة الله ويسير قدمًا في دربه: الصّبر والفقر وخدمة الآخرين والتّعزية… جميع الذين يسيرون قدمًا بهذه الأمور يكونون سعداء وتحقُّ لهم الطّوبى.

وعليه، فالتّطويبات، ليست وصايا فحسب، بل هي نهج السّيّد المسيح وهويّته أوّلًا، فالسّيّد المسيح هو أوّلًا الفقير بالرّوح والوديع، أليس هو القائل: ”أنا الوديع المتواضع القلب” وهو الرّحيم وطاهر القلب والسّاعي إلى السّلام، بل بالأحرى هو أمير السّلام ورئيس السّلام، وهو سلامنا وصلحنا حسب لاهوت القدّيس بولس الرّسول. ومن هنا فالتّطويبات هي نهج المسيحيّ وهويّته أمس واليوم وغدًا. فإن اختار العالم تمجيد الغنى والقوّة والجبروت، فقد اختار السّيّد المسيح لذاته ولذواتنا نهجًا آخر وهويّة أخرى وهي التّطويبات.

وإختتم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعيّ بالقول إنّ الله، ولكي يعطينا ذاته، يختار غالبًا دروبًا لا تخطر على البال وربّما أيضًا دروب محدوديتّنا ودموعنا وفشلنا. إنّه الفرح الفصحيّ الذي يحمل آثار المسامير ولكنّه حيّ، الفرح الذي عبر الموت واختبر قوّة الله. إنّ التّطويبات تحملك دائمًا إلى الفرح، إنّها الدّرب لبلوغ الفرح. وبالتّالي لنأخذ إنجيل التّطويبات، فتتأمّل هذه الآيات الذّهبيّة، كي تصنع لك هويّة وتطبع في قلبك وذهنك ومسلكيتك وشخصيّتك ألوانًا ومواقف من صلب خلق السّيّد المسيح، الذي يسألنا القديّس بولس أن نحققه في ذواتنا وحياتنا مشاعرًا ونهجا. فكتب مار بولس إلى أهل فيليبّي: “فليكن فيما بينكم الشّعورُ الذي هو أيضًا في المسيح يسوع” (فيليبّي ٢: ٤).

وأخيرًا، تخيّلوا معي أيّها الأخوة والأخوات، العالم والإنسانيّة، فيما لو اختار السّيّد المسيح ما هو عكس التّطويبات، وطوّب ومجد القوّة والشّراسة والقسوة ومدح المُضطهدِين والسّاعين إلى العدوان. ولذلك، فإنّ صورة العصر المسيحانيّ حسب الكتاب المقدّس هي انتصار نهج التّطويبات. وإن حثلنّا ذلك على أنفسنا وبلادنا في وضعها الحاليّ نقول مع صفنيا النّبيّ، الذي يلتقي نبويًّا مع خطّ التّطويبات، إلى جميع سكّان بلادنا على تعدّد أديانهم وأعراقهم: “التمسوا الرّبّ يا جميع ودعاء الأرض، التمسوا العدل، والتمسوا الدّعة، فعسى أن تستتروا يوم غضب الرّبّ…. وأبقي فيما بينك شعبًا وديعًا فقيرًا، فيعتصمون باسم الرّبّ” (صفنيا، ٣:٢ و ٣: ١٢– ١٣ ). فالشّعب الفقير الوديع والمستضعف هو المنتصر، وليس المتجبّر والمستكبر. فليعتصم من شاء بمن شاء وبما شاء من قوّة ومال ونفوذ ودهاء وظلم، أمّا نحن أبناء التّطويبات فلنعتصم باسم الرّبّ. فقد أمرنا خير الآمرين بهذا الاعتصام في سفر صفنيا وغيره من نصوص الكتاب المقدّس.

أمّا غضب الرّبّ الذي يذكره صفنيا صراحة في نبوءته، فيرد ضمنًا وتورية في التّطويبات والخطبة على الجبل. أفلا تلمسون شيئًا من غضب المعلّم الإلهيّ في عظته على الجبل؟ في قوله: “إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة والفرّيسيّين، لا تدخلوا ملكوت السّماوات” (متّى ٥ : ٢٠). فقد خلّدت فيروز هذا الغضب في “زهرة المدائن” مغنّية: “الغضب السّاطع آتٍ وأنا كلّي إيمان، الغضب الساّطع آتٍ سأمرُّ على الأحزان. لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلّي، سأدقّ على الأبواب. وستغسل يا نهر الأردنّ وجهي بمياه قدسيّة. وستمحو يا نهر الأردنّ آثار القدم الهمجيّة، الغضب السّاطع آتٍ، بجياد الرّهبة آتٍ“. فعمّدنا يا نهر الأردنّ واغسلنا من الغضب الإلهيّ وجمّلنا بالتّطويبات. ونهر الأردنّ الذي تختلط مياهه ببحيرة طبريّا، ليس بعيدًا من هنا في منبعه ومجراه ومصبّه ورمزيّته.