الأب حلّاق: بمريم ومعها تبدّل التّاريخ وتغيّر الواقع
وتابع: "غير أنّنا بالعودة إلى تاريخ شعب الله في مسيرته الإنسانيّة والرّوحيّة مع هذا الإله، نرى دومًا كيف أنّ الله يبقى أمينًا في محبّته ورحمته لمن إختار وسرعان ما يطفئ نار غضبه أمام رغبة صادقة بالتّوبة والرّجوع إلى أحضان الآب. إذا، ما هو مصدر تلك الآلام؟ فالله أعطانا وصاياه لنحيا بها فإذا عشنا بحسب كلمته فقد اخترنا الحياة وغير ذلك ما هو إلّا خيار الموت، الذي هو بعد عن الله. فكيف لا نعيشه اليوم بمجتمعنا ونحن نبعد الله عنّا في شتّى مواضيعنا؟ في معظم احتفالاتنا؟ في مؤسّساتنا التّربويّة؟ وأحيانًا في حياتنا الرّوحيّة؟ ونسأل أين الله؟
كلّ تلك المقدمة التي تبدو للوهلة الأولى خارج موضوع إنجيل هذا الأسبوع الذي نتأمل من خلاله حدث بشارة العذراء. إذا تأملنا الواقع الاجتماعي والاقتصاديّ للشّعب اليهوديّ آنذاك، ألا يشبه إلى حدّ بعيد واقعنا اليوم؟ ذلك الشّعب الذي كان يرزح تحت ظلم الإمبراطوريّة الرّومانيّة، بدفع الجزية والضّرائب بلا رحمة؟ ننطلق إلى الواقع الدّينيّ اليهوديّ الذي فيه كانت الشّريعة أكثر اعتبارُا من البشر، فكان الفرّيسيّون والكتبة بعيدين كلّ البعد عن فكر الله، الرّحمة والحبّ؟
في ذلك الواقع المؤلم، وفي ملء الزّمن، "أرسل الملاك جبرائيل" إلى النّاصرة، لبنت ما سمحت لروح العالم أن يشكّكها بأنّ الله حاضر دومًا، بأنه هو الإله الأمين الذي يحفظ وعوده. تلك هي مريم، أمّ الرجاء، التي بإيمانها الثّابت وطهارة قلبها وفكرها جذبت الله لتصبح أمًّا له، أمّ الخالق. نعم، بمريم ومعها تبدّل التّاريخ وتغيّر الواقع. كلا، الله لم ينسَ أبناءه ولن ينسى جبلة يديه ولن يتخلّى عن صورته ومثاله، لأنّه بنا يتمجد.
تنازل الله واختار حشا البتول ليسكن بيننا ومعنا، فشاركنا أفراحنا في عرس قانا الجليل، حمل أحزاننا وشاركنا ألم الفراق فبكى لموت صديقه لعازر. تحمل خيانة القريب مع يهوذا، وأخذ موتنا وأعطانا الغلبة عليه فجعل فرحنا تامًّا كما وعدنا.
في هذا التّأمل لم أتكلّم عن أمّنا مريم كثيرًا، ولم أصف جمال فضائلها كما يليق بأمّ المخلّص، غير أنّني واثق بأنّها سعيدة جدًّا، فهي التي تحتجب ليظر مجد ابنها يسوع، هي التي ما تكلّمت في الكتاب المقدّس إلّا القليل وما كان ذلك إلّا لأنّها لا ترغب سوى أن تكون أوّل "بيت قربان" للعالم فأعطتنا المخلّص."
وإختتم مصلّيًا: "ما أعجبك يا مريم في تواضعك، في جمالك وفي محبّتك. سامحينا لا نستطيع أن نوقف فكرنا وقلبنا عن التّغنّي بك يا إمّ الله، نسألك أن تصلّي لأجلنا لكي نكون على مثالك، حضورًا مميّزًا بإيماننا الثّابت وبتعلّقنا بالله، فلا ننجرف مع كلّ عابر سبيل يقودنا إلى اليأس والإحباط، بل ننتظر تجلّي الله في واقعنا وحياتنا. إمنحينا فضيلة الرّجاء التي بها ننتظر ابنك يسوع، ينير ظلمتنا فلا نعود نرى بصمت الله إله غير مبال فنُأثّم الله. بل يكون لنا مرحلة نعود فيها لذواتنا، نتوب، نتحمّل مسؤوليّتنا بنشر ثقافة الحبّ فلا يعود ظلام خطيئتنا يعمينا."