الأب الياس كرم: بشّر بالفرح كلّ المسكونة
"عيّدت الكنيسة في الثّامن من أيلول لعيد ميلاد العذراء مريم، والمعروف شعبيًّا بعيد صيدنايا. يأتي هذا العيد، كباكورة الأعياد السّيديّة، مع بدء السّنة الطّقسيّة، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، والموافق في الأوّل من شهر أيلول. كما أنّ عيد رقاد والدة الإله في الخامس عشر من شهر آب، تختم به الكنيسة سنتها الطّقسيّة.
ليس صدفةً أن تبدأ الكنيسة سنتها الطّقسيّة وتختتمها بأعياد خاصّة بمريم العذراء، فالكنيسة تنطلق في تكريمها لمريم، من إكرام المسيح لها، الّذي اختارها ليحلّ في مستودعها الدّائم البتوليّة.
ورد في الإنجيل: "ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال". لقد أدركت القدّيسة مريم عظمة العطيّة الّتي نالتها إذ تمتَّعت بواهِب العطايا نفسه، تحمله في أحشائها، لذا جميع الأجيال (جميع المؤمنين عبر العصور) يطوِّبونها من أجل عمل الله معها. وها هي الكنيسة قد امتلأت طقوسها بتكريمها، مُعلنةً عمل الله فيها ومعها بتجسُّد الكلمة مخلِّص العالم.
إنّنا نطوِّبها عبر العصور، لا لأنّها عذراء، وإنّما كعذراء تجلّى في حياتها عمل الله الخلاصيّ الفائق. كلّ مؤمن يتطلَّع إليها يرى فيها نعمة الله الفائقة الّتي وُهبت للبشريّة. نحن مدعوّون أن نكون مريميّين في فكرنا وروحنا وتصرّفاتنا وإيماننا، وأن نقتدي بها، لا أن نكرّمها بشفاهنا ولساننا، وإلّا فلنحذفها من طقوسنا، كما حذفها كثر ممّا يدّعون المسيحيّة. كما ولا يمكن بالتّالي أن نغالي في التّكريم لدرجة العبادة. فهي تبقى والدة الإله والشّفيعة الحارّة، أمّا العبادة فهي لله وحده.
يقول القدّيس نيقولاس كاباسيلاس (1320- 1363): "نظر الله من العلى إلى الأرض فرأى إنسانة طاهرة نقيّة متواضعة، فلم يستطع إلّا أن يتجسّد منها". تواضع العذراء مريم جذب الله.
فالكنيسة تحتفل بميلاد السّيّدة لأنّ فيها تمّ القصد الإلهيّ بخلاص البشر. من ميلادها نأخذ عبرةً أنّ "كلّ مولود بشريّ مشروع قداسة وحامل للإله"، إذا هو أراد طبعًا.
نحن نرتّل في هذا العيد: ميلادك يا والدة الاله بشّر بالفرح كلّ المسكونة، لأنّه منك أشرق شمس العدل المسيح إلهنا، فحلّ اللّعنة ووهب البركة، وأبطل الموت ومنحنا حياة أبديّة". هذه التّرتيلة تختصر التّدبير الإلهيّ، إذ أنّه بمولد مريم، من زوجين عاقرين، أُدخل الفرح إلى العالم، بمنحنا الحياة الأبديّة، الّتي حقّقها يسوع المسيح، المتجسّد من مريم، على الصّليب.
بالمقابل تعلّمنا اللّيتورجيا لاهوت العيد بكلمات مختصرة، ويحضرني في تراتيل العيد قضيّة العقر، فالعاقر تلد والدة الإله، وهذا دليل ساطع على أنّ هناك عواقر حُرمنا من نعمة الولادة، إنّما بإيمانهم وتكريمهم للعذراء واقتدائهم بها، استطعن ولادة أبناء روحيّين كثر، إذ بتصرفاتهم ومناقبيتهم وأخلاقهم وقوّة إيمانهم، اقتدى بهم كثيرون. وللأسف هناك كثر أنجبوا، ولم يستطيعوا أن يزرعوا الرّبّ في قلوب أبنائهم.
والعقر ليس بالولادة فقط، إنّما بالعقول المتحجّرة، الّتي لا تستطيع أن تبني، إنّما تهدّم، على مثال المسؤولين في هذا البلد، الّذين أصابهم عقم عقليّ، لدرجة لم يجدوا حلولًا لمشاكلنا وأزماتنا اليوميّة، ولكن نبقى على الرّجاء.
يأتي عيد رفع الصّليب، مباشرة بعد عيد ميلاد والدة الإله، وقد أشار سمعان الشّيخ، عندما حمل يسوع على ذراعيه، بأنّه سيجوز سيف في قلب مريم، هذا السّيف هو الصّليب الّذي رُفع يسوع عليه. وبهذا يكتمل الفرح في الكنيسة، لأنّه بالصّليب أتى الفرح لكلّ العالم.
الصّليب الّذي، عيّدنا لرفعه، في الرّابع عشر من شهر أيلول، كان رمزًا للعار، صار مع يسوع وسيلة الخلاص. ونحن نردّد في صلواتنا: "الصّليب حافظ كلّ المسكونة، الصّليب جمال الكنيسة، الصّليب عزّة الملوك، الصّليب ثبات المؤمنين، الصّليب مجد الملائكة، وجرح الشّياطين". نحن نؤمن أنّ الصّليب، جسر عبور، من الأرض إلى السّماء، ومن الموت إلى الحياة، من هنا، نحن لا نجعل من الصّليب وسيلة للزّينة الخارجيّة، إنّما هو لأجل خلاصنا، وعليه يقول بولس الرّسول: "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ." (غل 6: 14).
فلنتذكّر دائمًا، أنّ وراء كلّ حزن وتعب وألم، هناك فرج، هناك فرح، وهذه الشّدّة ستزول، إذا آمنّا إيمانًا مطلقًا بالله، سيّدًا وحيدًا على حياتنا، كما آمنت به مريم. فأرجوك يا ربّ كفّ عن دموع الفراق، فراق الأحبّة الّذين يغادروننا للهجرة، وارحمنا في هذا البلد كعظيم رحمتك، وأعتقنا من شرور المسؤولين، علَّ هذا البلد يستعيد عافيته، بقوّة الإيمان الحقيقيّ، عند شعبه، آمين."