الأباتي الهاشم: المسيحيّ هو النّاظر بكلّ إيجابيّة إلى ديناميّة الحياة وجمالها وفرحها وتقدّمها
"أمام الصّليب، صليب الهوان المعلّق عليه يسوع، نحن في حضرة ابن الله، ربّ المجد. لكنّ فكرنا غالبًا ما يتخبّط في الضّياع، أمام هذا المشهد، فيفضّل البعض منّا صرف النّظر عنه للتّركيز على مشاهد الحياة والمقاييس الّتي نسلّطها عليها، خصوصًا من ناحية الإنجازات والنّجاح. ولكنّ المتنحين عن التّأمّل في الصّليب، يعودون فيصطدمون بواقعٍ مريرٍ معيّن. فلا واقعيّةَ حياتيّةْ بدونَ الصّليب. وتنبري مشاهد الصّلب أمامنا، مشهدًا مشهدَا، حيث الإنسانُ في قمّة هشاشته الوجوديّة، مظلومٌ، ومغلوبٌ على أمره، ومعزولٌ، ووحيدٌ، وحيث اللهُ حاضرٌ، كلَّ الحضور، بالرّغم من ظاهرِ غيابِه. فنكتشف، من خلاله، مجدّدًا، واقعيّةَ حياتِنا.
عند الصّليب، تخلّى جميع من كانوا مع يسوع عنه. أنكره بطرس. خانه يهوّذا. هرب الرّسلُ وفارقوه. استهزأ به الجنود، وجميع المارّة أمام الصّليب كانوا يجدّفون ويعيّرونه. رؤساء الشّعب حكموا عليه وهزئوا به. وتصل الأمورُ إلى دركها، فيسخر منه لصٌّ محكومٌ. حتّى الأرضُ تخلّت عنه، ولم تعد ترضَى أن تفرش ذاتها بساطًا لقدميه، وجُلَّ ما قبلت به هو أن يُغرسَ صليبُه فيها.
في تلك الهنيهات، نظر يسوع من حوله، وأدرك كم هو معزول ومتروك، ووجد أنّ المكان الوحيد الّذي بقي له للتّوجه إليه هو السّماء. صرخ عندئذٍ لله أبيه، صرخة البائس وقال: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" من هناك أيضًا، لا جواب تسمعه الآذان أو تراه العيون.
نحن نرى ذاتنا أحيانًا في حالة يسوع البريء والمتألّم والمظّلوم، ونرى، أحيانًا أخرى، آخرين في هذه الحالّة الذّريّة، كما نرى، في أحيانٍ، أناسًا يلبسون زِيَّ الظّالمين الّذين حكموا على يسوع، والّذين مرّوا أمام الصّليب مستأهزئين. وقد نلبس، لا سمح الله، أحيانًا أخرى، هذا الزّيّ.
كم مرّةٍ يأتي الموتُ أو شكلٌ من أشكاله ليطال حياتنا مباشرة؟ كم نحزن لفقدان أحد أحبّائنا، وكم نتيه بسبب مرض يدقّ بابَنا شخصيًّا، أو يدقّ باب حبيبٍ أو قريبٍ لنا؟ كم حالةِ فقرٍ تهدّد بالنّيل من فرح الحياة ومن كرامة الإنسان؟ كم إنسانٍ يفقد جمال الحياة وفرحها لأنّه يقع في أزمات نفسيّة أو أزمات إدمان تجعله مخلّعًا من الدّاخل، غيرَ متماسكٍ وكئيب؟ كم عنفٍ يضرب مستضعفين؟ كم حربٍ تقرع طبولُها فتدمّر الحجر وتطرح الإنسان في الشّارع قتيلاً وجريحًا ومشرّدًا ونازحًا في مشاهدَ مروّعة، وكأنّ الحالةَ الإنسانيّةَ نُزعت من مفتعليها ومن متلقيها؟ وتطول لائحة الآلام وقد يزيد كلّ منّا سطرًا أو سطورًا فيها.
حالة الصّليب هي حالةٌ يعيشها الكثيرون في كلّ هنيهة من لحظات التّاريخ، وهي ليست فقط صورةً يحيطُ العقلُ والفكرُ بجوانبها، بل إنّها واقعٌ، في كلّ زمن، واقعٌ يطالُ كلَّ إنسان، بدون استثناء، بطريقة من الطّرق، مباشرةً أو غيرَ مباشرةٍ. إنّ الألمَ وعنفَ الظّلمِ هما رفيقا الحالة الإنسانيّة.
وهنا بالذّات نعود إلى الإنسان يسوع، المتألّم كلّ الألم. نعود إليه لأنّه يفهمنا معنى الوجود ومعنى الحالة الإنسانيّة. نعود إليه لأنّنا نريد معانقة الصّليب، فكما قال لنا قداسة البابا فرنسيس يوم أحد الشّعانين: "لا يمكن التّفاوض مع الصّليب، إمّا أن نعانقه أو نرفضه. وقد أراد يسوع، عبر تواضعه، أن يفتح لنا طريق الإيمان ويسبقنا فيها".
نعود إليه، لأنّه هو الإنسان، وهو الله. فهو يفهمنا أنّ في باطن الواهن والضّعيف والمظّلوم، هناك الله. هو يفهمنا أنّنا لا نستطيع إدراك كيف أنّ الله، في حكمته اللّامتناهية، أظهر محبّته اللّامتناهية من خلال آلام ابنه. هو يفهمنا أنّ أفق الحياة ليس ما تراه عيوننا من أفق الأرض ومن انجازات الأرض، بل إنّ أفق الحياة ينفتح على رحاب أزليّة الله.
يفهمنا يسوع، من خلال صلاته إلى الآب، عشيّة آلامه: "لتكن مشيئتك لا مشيئتي"، أنّ ثباته في موقفه مع الله، حتّى الّصليب، وهو إنسان واحد، أفاض الخير على كثيرين. هو يفهمنا أنّ موقف كلّ منّا، بدون أيّ استثناء، ضروريّ لننهض جميعُنا، بعضُنا مع بعض. من هنا، أريد دعوة كلّ أخٍ وأختٍ في المواطنة اللّبنانيّة إلى تحمّل هذه المسؤوليّة الجسيمة لينهض لبنان. علينا أن يفحص كلٌّ منّا ضميره عن كميّة الخير الّذي شهد له وثبت فيه وزرعه في محيطه، قبل أن نشير إلى بعضنا البعض أو إلى المسّؤولين بيننا بأصابع الاتّهام. هذا الموقف، أيّ تحمّل المسّؤولية الشّخصيّة لكلّ منّا، هو الموقف الأوّل في درب ترسيخ ثقافة الشفافيّة ومكافحة الفساد في مجتمعنا.
يفهمنا يسوع أنّ مظهر الحياة لا يعبّر دائمًا عن جوهرها. إنّ جوهر الحياة، أيّ باطنها، هو المحبّة والخير والحقّ. إنّ الله محبّة. هذا هو جوهر الحياة، هذا هو نجاحها، وهذا هو إنجازها. فلنفرحنّ بكلّ إنجاز وبكلّ نجاح، فالمسيحيّ هو النّاظر بكلّ إيجابيّة إلى ديناميّة الحياة وجمالها وفرحها وتقدّمها، ولكن فلنعلم دائمًا أنّ النّجاح ليس بنجاحٍ ألّا إذا كان دائمًا، ولا ديمومةَ إلاّ مع الدّائم الوحيد الذي هو الله
ويسوع المتألّم على الصّليب يفهمنا أنّ الله محبّة لكلّ إنسان، وخصوصًا للإنسان الضّعيف. وهو علّمنا قبيل آلامه أنّ ما نفعله مع الإنسان، وخصوصًا الضّعيف، فمعه نفعله، خيرًا كان أم شرًّا. إنّ الإنسان هو أخ ليسوع، ابن الله. فكلّ حالة ظلم يخلقها الإنسان تجاه الأضعف منه، مهما كان نوعها، هي مجابهة لله وتعدٍّ عليه. لذا إنّ كلَّ ظالمٍ فاشلٌ لا محالة، لأنّ اللهَ هو المنتصر الدّائم.
يفهمنا يسوع، من خلال صليبه، أنّ الكلمة الأخيرة ليست للألم والهوان والظّلم والأسى والموت. إنّ الكلمة الأخيرة هي لله وللحياة وللقيامة، إذ إنّ صليب يسوع هو صليب القيامة. في باطن الصّليب، هناك قيامة.
في هذه اللّحظات من إعلان هذا الإيمان، يتوجّه الفكر إلى أمّنا الكنيسة الّتي تحمل الحقّ وتعلنه، من أجل خير كلّ إنسان وخلاصه، ومن أجل نموّ كلّ الأوطان. أودّ هنا أن أتوجّه إلى سعادة السّفير البابويّ في لبنان، المطران جوزف سبيتري السّامي الاحترام، بالتّعبير عن فرحنا لوجوده معنا للمرّة الأولى في هذه المناسبة المجيدة، راجيًا إيّاه أن ينقل إلى قداسة البابا فرنسيس أصدق مشاعرنا البنويّة وطاعتنا المطلقة، وهو رأس الكنيسة الكاثوليكيّة الّتي نفرح بالانتماء اليها وإلى مسيرة "الأخوّة الإنسانيّة" التي يقود قداسته رسالتها في العالم مع مختلف الشّعوب ومختلف الأديان، والتي تلاقيها مبادرة فخامة الرّئيس في جعل لبنان بلد التّلاقي والحوار الإنسانيّ. كما أتوجّه إلى صاحب الغبطة والنّيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الكليّ الطوبى بأسمى مشاعر البنوّة سائلاً الله أن يعضده في رسالته وفي مواقفه من أجل الكنيسة ومن أجل لبنان.
وإذ تشارف كلمتي على نهايتها، أودّ أن أحيّي انطلاقةً جديدةً. إنّني أتوجّه إليكم يا فخامة الرّئيس، شاكرًا إيّاكم كلّ الشّكر على حضوركم بيننا. جميعنا نصلّي، إذ نتلمّس الزّخم الّذي تظهرونه والّذي تدعون إليه من اجل ترسيخ الانطلاقة الجديدة للعهد، العهدِ بالمعنيين: معنى الفترة الزّمنية لتحمّلكم للمسؤوليّة، والعهد الآخر الذي تحملونه في القلب وتعبّرون عنه في مجالسكم، إنّه العهد الّذي قطعتموه تجاه شهداء لبنان، أي الوعد بإكمال المسّيرة من أجل غدٍ أفضل للبنان، الوطن الّذي استشهدوا لأجل أن يبقى ويعيش فيه أهلهم وعائلاتهم بكرامة. حسبنا، في ما تقومون به، فخامتكم وجميع المسّؤولين في الدّولة اللّبنانيّة، أن نردّد كلمات عاموس النّبيّ القائل: "ليجرِ الحقُّ كالمياه، والبرُّ كنهرٍ لا ينقطع" (عاموس 5: 24). إنّنا نرافقكم بصلاتنا وبقدراتنا من أجل أن تنجح مسّيرة الخير في عهدكم ومن أجل أن يشعر كلّ لبنانيّ بفرح الحياة، ويفقه جوهرَها وباطنَها، أي المحبّة، أيّا يكن مظهرُها. إنّ الله معنا على الدّوام، في باطن حياتنا، يرافقنا. إنّه ملكوت الله بيننا. آمين".