اختيارنا المادّيّات الزائلات بملء حرّيّتنا يعني الابتعاد عن الربّ": المطران عوده
بعد الإنجيل المقدّس تأمّل المطران عوده في كلمات الوحي الإلهيّ التي تُليت على مسامع الحاضرين قائلًا: "نعيّد لأجداد الربّ يسوع الذين خدموا الله بأمانة، أو صنعوا عجائب بقدرة الله، أو أتى المسيح منهم بالجسد. وقد سمعنا اليوم مقطعًا إنجيليًّا يهزّ ضمائرنا ونفوسنا دومًا، وخصوصًا في مسيرتنا الصياميّة نحو ميلاد المخلّص، التي شارفت على نهايتها.
سمعنا في الإنجيل أنّ إنسانًا صنع عشاءً ودعا إليه أصدقاءه ومعارفه ليتشاركوا الفرح، إلّا أنّ المدعوّين بدأوا يعتذرون لأسباب واهية وعلل متعدّدة. فالأوّل أراد أن يتفقّد الحقل الذي اشترى والثاني شاء تجربة فدادين البقر التي ابتاع، والثالث اعتذر بداعي الزواج، وكان بإمكانه إحضار زوجته معه إلى العشاء.
إذا تأمّلنا في هذا النصّ، ونظرنا إلى حياتنا الروحيّة وطريقة تعاملنا مع الربّ والكنيسة، نجد أنّنا لا نختلف عن هؤلاء الأشخاص بشيء. فنحن كثيرًا ما نتوسّل أعذارًا واهيةً كي لا نذهب إلى الكنيسة ونشارك في عشاء الربّ، مع أنّ هذا اللقاء السرّيّ مع إلهنا هو اجتماع محبّة وسلام، وليس اجتماع عمل وقلق وتعب، وهو القائل لنا: «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم» (مت 11: 28). كثيرًا ما نضع أيضًا العوائق أمام عيش مسيحيّتنا بتمامها، فلا نصوم ولا نصلّي ولا نقوم بأعمال المحبّة والخير، متذرّعين أنّ صحّتنا لا تحتمل صيامًا، مع أنّ الصوم صحّيٌّ أكثر من الأكل على المستوى الجسديّ، فكم بالحريّ هو مفيدٌ لصحّة النفس؟ نقول أيضًا إنّ لا وقت لدينا كي نصلّي، فتقف حدود صلواتنا عند رسم إشارة الصليب، التي على الرغم من أهمّيّتها وضرورة إتمامها بالشكل الصحيح، إلّا أنّها لا تكفي. هل يكتفي العاشق بتذكّر حبيبه ولا يمضي معه وقتًا؟... صلاتنا إليه وحديثنا معه مهمّان جدًّا، أكانا بشكل فرديّ أو جماعيّ، لأنّ هذا الأمر يوطّد العلاقة بين الخالق والمخلوق، فندرك أكثر أنّ لنا إلهًا يحبّنا ويسمعنا ويبلسم جراحنا ويحلّ مشاكلنا، إذا اتّجهنا إليه بحرّيّتنا الشخصيّة. إلّا أنّ هذا لا يكفي أيضًا، لأنّ الإيمان والصلاة لا يمكن قياسهما، لذلك وجب أن ترافقهما أفعالٌ حسّيّةٌ تدلّ عليهما. أعمال المحبّة والرحمة التي نقوم بها تجاه الآخر، مهما كانت بسيطةً، تدلّ على مدى عمق إيماننا وصلتنا بالربّ، لذلك يجب ألًا نتذرّع بأنّنا لا نستطيع تغيير شيء، كأفراد، ويجب أن نعمل كجماعة لتحقيق الأهداف. علينا فقط الشروع بالعمل، والربّ يرافقنا، فنكون منارات تهدي الجميع بنورها وتدفعهم إلى القيام بالمثل، فيشعّ نور المسيح في الكون. أليس من أجل هذا القصد تجسّد الإله وصار طفلًا؟
بعدما اعتذر المدعوّون عن العشاء المعدّ على شرفهم، ما كان من صاحب الدعوة إلّا أن أرسل يدعو المرذولين من المجتمع ليدخلوا ويفرحوا معه. قال لعبده: «أخرج سريعًا إلى شوارع المدينة وأزقّتها وأدخل المساكين والجدع والعميان والعرج إلى ههنا». هكذا نحن، الذين ندعو أنفسنا مسيحيّين، عندما لا نلبّي دعوة ربّنا إلى عشائه وفرحه، فإنّه لا يلغي الفرح، بل يكمل بسوانا، لأنّ الربّ خلق غيرنا والدعوة لا تقف عندنا نحن. لقد ظنّ الشعب العبرانيّ أنّه شعب الله المختار، إلى أن أفهمه الله أنّه خالق الأمم جميعها، وأنّ للربّ الأرض وكلّ ما فيها، المسكونة وجميع ساكنيها كما نقرأ في سفر المزامير (مز 24: 1). الربّ نفسه يقول لنا: «إنّ العشّارين والزّواني يسبقونكم إلى ملكوت الله» (مت 21: 31)، فلا نظن أنّنا مختارو الله فقط لأنّنا ندعى «مسيحيّين»، وأنّنا نستطيع الإبطاء في تلبية الدعوة أو التملّص منها، ثمّ نلقي اللوم على الربّ لأنّه لا يسمعنا ولا يساعدنا. عندما نفضّل المادّيّات الزائلات على الربّ نكون قد اخترنا بملء حرّيّتنا أن نبتعد عنه، لأنّه هو لا يبتعد أبدًا عن خليقته، لكنّ «المدعوّين كثيرون والمختارين قليلون» كما قال الربّ في إنجيل اليوم. هل هذا البعد عن الله يفسّر المآسي والصعوبات والحروب التي يعيشها الإنسان منذ بدء الخليقة؟ هل بعد الإنسان عن خالقه هو سبب الفراغ القاتل الذي يعيشه البعض فيلجأون إلى وسائل قد تزيدهم تخبّطًا وفراغًا وبعدًا عن الله؟