إنطلاق أعمال مؤتمر مركزيّة مسيحيي المشرق في مركز لقاء الرّبوة
بعد النشيدين اللبناني والكنسي، القى رئيس لجنة المؤتمر المحامي رشيد الجلخ كلمة لخّص فيها الدوافع التي قادت الى انعقاد المؤتمر مستعرضًا ابرز القضايا الموضوعة على طاولة المؤتمرين.
وبدوره، شدد رئيس مركزية مسيحيي المشرق الكومندور فادي حبيب سماحة على اهمية العنوان الذي اتخذه المؤتمر الرابع للمركزية والذي يبحث في كيفية تثبيت وتفعيل الحضور المسيحي لا سيما في ظل هذه الظروف الحرجة.
من جهته، اكد امين عام مجلس كنائس الشرق الاوسط الاب ميشال جلخ انه لا يمكن تجاهل الاحداث الأليمة او شطبها في لحظة تكفير بدأت ولم تنته ولكن وبالرغم من كل المأساة بقي المسيحيون ثابتون في ارضهم ومتمسكون بها لافتا الى ان مسؤولية استمرار الحضور المسيحي ومسألة وجوده هي مسؤولية مشتركة آملا ان يشكل هذا المؤتمر مدماكا رئيسا في تفعيل الحضور المسيحي.
بعد ذلك، كانت كلمة للبطريرك غريغوريوس الثالث لحام قال فيها:
"لكم أيُّها الأحبَّاء أطيب الأماني في مؤتمركم الرَّابع، في مركزكم مركز لقاء لحوار الحضارات. لكم التهاني الحارَّة بهذا المركز الذي يجمع هذه الكوكبة من أبناء المشرق.
ويسرُّني أن اقدِّم كلمتي لتكون دعمًا لجهودكم لأجل أن نحافظ على حضورنا ودورنا وشهادتنا في مشرقنا حيث ولد المشرق من العلاء السيد المسيح، وحيث ولدت المسيحيَّة تحمل نور المسيح، نور الشرق إلى العالم أجمع. وأختصر كلمتي بهذه العناوين: 1.حضور-دور-شهادة، 2. مع ولأجل، 3.العيش معًا ممكن، 4. هوية وانفتاح
1. حضور-دور-شهادة
في هذه الظروف الصَّعبة التي يعيشها عالمنا العربي، يتساءَل المسيحيُّون بنوعٍ خاصّ، كما يتساءَل سائر المواطنين عن مصيرهم ومستقبلهم، أستذكر وثيقةً جميلةً جدًّا. إنَّها رسالةٌ من القرن الثاني الميلادي، وقد كتبها أحد المسيحيين الأبرار الأوائل دفاعًا عن المسيحيَّة، وإظهارًا لميزة وقوَّة الإيمان المسيحي، ولا سيَّما أمام تطوُّرات وتقلُّبات المجتمع، وأمام زعزعته وعطبه وهشاشته.
وقد وضع الكاتب ذلك في شكلِ خطابٍ موجَّهٍ إلى مواطنٍ يونانيٍّ وثنيّ ذي مركزٍ اجتماعيٍّ رفيعٍ مرموق اسمه ديوجينيس. ودُعيَت الوثيقة: "الرِّسالة إلى ديوجينيس".
في هذه الوثيقة والرِّسالة، الكثير الكثير من واقع مجتمعنا اليوم، ومن التوجُّهات والعِبَر والإرشادات للمسيحي كيف يتصرَّف، وما هو موقفه، وما يجب أن تكون ردَّةُ فعله أمام واقعه الرَّاهن.
أقتبسُ بعض المقاطع من الفصلَين الخامس والسَّادس من هذه الرِّسالة:
سموُّ حياة المسيحيين
"لا يختلف المسيحيُّون عن غيرهم من أبناء البشر في الوطن أو اللُّغة أو العادات. في الحقيقة لا يقطن المسيحيُّون مدنًا خاصَّةً بهم وحدهم، ولا يتكلَّمون لغةً خاصَّةً بهم، ولا يعيشون عيشةً غريبةً أو شاذَّة. عقيدتهم ليست من تأليف أشخاص فضوليين أو خياليين أو متكبِّرين. ولا يؤيِّدون كغيرهم عقيدةً من صنع البشر. مع أنَّهم يسكنون في مدنٍ يونانيَّةٍ أو غير يونانيَّة، حسب خيار كلٍّ منهم، ويسلكون بموجب عادات البلد الذي يحلُّون فيه، ويتزيَّون بزيّ مواطنيهم ويأكلون من طعامهم ويتماشَون مع أساليب معيشة أقرانهم، فإنَّ أسلوب معيشتهم يستوجب الإعجاب والإقرار بأنَّه غير مُتوقَّع. تراهم يسكنون البلدان ولكنَّهم غرباء. هم يشتركون في كلِّ شيء كمواطنين ولكنَّهم يحتملون كلَّ ما يحتمله الغرباء. كلُّ بلدٍ أجنبيٍّ وطنٌ لهم، وكلُّ وطنٍ لهم بلدٌ غريب. يتزاوجون كغيرهم ويتوالدون، ولكنَّهم لا يُهملون أولادهم ولا يعرضونهم للموت. يفرشون طعامهم للجميع ولكنَّهم لا يشاركون فراشهم أحدًا. عائشون في الجسد ولكنَّهم لا يعيشون للجسد. يقضون أيَّامهم على الأرض ولكنَّهم مرتبطون بوطنٍ سماوي. يطيعون القوانين المرعيَّة لكنَّهم يتقيَّدون بأكثر منها في حياتهم الخصوصيَّة. يحبُّون جميع الناس رغم أنَّ الجميع يضطهدونهم. تراهم مجهولين ولكنَّهم مُدانون. يُماتون ولكنَّهم يُعادون إلى الحياة. فقراء ولكنَّهم يُغنون كثيرين. معوذون لكلِّ شيء ولكنَّهم ينعمون بكلِّ شيء. يُفترى عليهم ولكنَّهم يُبرَّرون، يُشتَمون ولكنَّهم يُبارِكون. يُهانون ولكنَّهم يُكرِمون الآخرين. يعملون الخير فيُجازَون كأشرار. حينما يُعاقَبون بالموت يفرحون كأنَّهم يُقامون إلى الحياة. يُحارَبون ويُضطَّهَدون. ومع ذلك فالذين يكرهونهم يعجزون عن ذكر سبب كراهيَّتهم لهم".
المسيحيُّون هم روح العالم
"باختصار فإنَّ المسيحيين بالنسبة إلى العالم كالرُّوح بالنسبة إلى الجسد. الرُّوح تمتدُّ إلى جميع أعضاء الجسد، والمسيحيُّون ينتشرون في جميع مدن العالم. كما أنَّ الرُّوح تسكن في الجسد و هي ليست منه، فهكذا المسيحيُّون يسكنون في العالم ولكنَّهم ليسوا منه. و كما أنَّ الرُّوح غير المنظورة تُحبَس في الجسد المنظور فهكذا المسيحيُّون يُعرفونَ مسيحيين في العالم ولكن تقواهم تظلُّ غير منظورة. و مع أنَّ النفس لا تُسيء الى الجسد فإنَّ الجسد يكرهها ويحاربها لأنَّها تُعيقه عن الانغماس في الملذَّات. كذلك لا يُسيءُ المسيحيُّون إلى العالم ولكنَّ العالم يكرههم لأنَّهم يقاومون ملذَّاته. و النفس تحبُّ الجسد الذي يكرهها كما أنَّ المسيحيين يحبُّون الذين يكرهونهم. وكما أنَّ النفس تُحبَس في الجسد ولكنَّها تحفظه، فإنَّ المسيحيين أيضًا يُحبَسون في العالم ولكنَّهم هم الذين يحفظون العالم. و كما أنَّ النفس الخالدة تسكن في خيمةٍ فانية، فإنَّ المسيحيين أيضًا يعيشون كغرباء بين الأشياء الفانية منتظرين الخلود في السَّماء..." (إلى هنا نص الرسالة من القرن الثاني).
الإيمان المسيحي في المجتمع غي المسيحي
هذه الرِّسالة تُظهر قوَّة الإيمان المسيحي. فالإيمان هو أساس موقف المسيحي من مجتمعه، ومن التطوُّرات فيه، ومن التقلُّبات، ومن الدساتير والقوانين والشرائع، التي يمكن أن تشكِّل عائقًا أمام ممارسة إيمانه المقدَّس، ومنها مثلاً موقفه من الشريعة الإسلاميَّة والفقه الإسلامي، وبالتحديد مثلاً في المجتمع العربي ذي الأغلبيَّة المسلمة. فعليه أن يعرف كيف يتفاعل مع هذه الدَّساتير والشرائع، ويعرف كيف يجد المجال في إطار هذه الدَّساتير وفي ظلّ وحكم الشريعة غير المسيحيَّة والفقه الآخر... ويجد المجال والمدى الواسع، لكي يكتشف كيف يمكنه أن يعيش إيمانه وقيَمه. لا بل يكتشف كيف يمكن أن يتفاعل مع هذه الدَّساتير وأنواع الفقه، ويتواصل معها، وكيف يُغنيها ويُطوِّرها ويُطعِّمها بقيَم إيمانه وتعاليم معلِّمه السَّيِّد المسيح في الإنجيل المقدَّس، ومبادئ كنيسته وقناعاته الإيمانيَّة والوطنيَّة والإنسانيَّة. ومن خلالها يتلاقى مع إخوته المواطنين الآخرين من غير دينه ومعتقده وحتَّى ثقافته. ويمكنه أن يحصل من خلالها ومن خلال انفتاحه، على الأمور التي تحمي عقيدته وأخلاقه وفقه كنيسته. وهذا عن طريق قوانين الأحوال الشخصيَّة، والنَّدوات الفكريَّة لأجل التطوُّر نحو المجتمع المدني مثلاً، ومبادئ العلمانيَّة المؤمنة..." (إلى هنا نص رسالة الفصح 2012).
2. أهميَّة الحضور المسيحي: مع ولأجل
وحول الهجرة والتهجير أقول: سُؤلتُ وأُسأل مرارًا وتكرارًا في البلاد العربيَّة وخارجها، ومن قِبَل جهات كنسيَّة ومدنيَّة وسياسيَّة، هل هناك فكرة تفريغ الشرق من المسيحيين؟ وأُجيب كالتالي: "نريد أن نبقى كمسيحيين! ونريد أن نبقى كمسيحيين مع ولأجل المسلمين. ونريد أن يفهم المسلمون ذلك. وعليهم أن يُبعدوا عنهم تهمة أنَّ المسلمين يريدون تفريغ الشرق من المسيحيين. من جهة أخرى نقول لهم بكلِّ محبَّة وشجاعة وتصميم: نريد أن نبقى معهم! ونبقى معهم لأجلهم. كلّنا معًا في التاريخ. وسنبقى معًا اليوم، وسنبقى غدًا. المستقبل لنا كلّنا معًا. أو نكون معًا أو لا نكون كلّنا معًا. المسيحيون والمسلمون هم معًا النسيج الواحد المشترك في كلِّ بلدٍ عربي! الله معنا! ونحن مع بعضنا البعض! لا بل نقول بكلِّ صراحة: كنا وسنبقى نحن المسيحيين في سورية وفي البلاد العربيَّة، المدافعين عن الإسلام في الخطِّ الأول. كما نحن أيضًا المدافعون عن العروبة وعن الوحدة العربيَّة.
وقد قال أحدهم في مطلع الأزمة السوريَّة: حافظوا على مسيحييكم لكي تحافظوا على عروبتكم.
يقول محمد حسنين هيكل عن التحوّل في النسيج الاجتماعي العربي:
"لي ملاحظة تتعلَّق بمسيحيي الشرق. هناك ظاهرة هجرة بينهم يصعب تحويل الأنظار عنها أو إغفال أمرها أو تجاهل أسبابها، حتى وإن كانت الأسباب نفسيَّة، تتصل بالمناخ السائد أكثر مما تتصل بالحقائق الواقعة فيه. أشعر أنَّ المشهد العربي كلّه سوف يختلف إنسانيًا وحضاريًا، وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقرًا وأقل ثراءً لو أنَّ ما يجري الآن من هجرة مسيحيي الشرق تُرِكَ أمره للتجاهل أو التغافل أو للمخاوف حتى وإن لم يكن لها أساس. أي خسارة لو أحسَّ مسيحييو الشرق، بحق أو بغير حق، أنَّه لا مستقبل لهم ولأولادهم فيه، ثمَّ بقي الإسلام وحيدًا في المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهوديَّة الصهيونيَّة بالتحديد أمامه في إسرائيل".
دورنا في ولادة عالم جديد
علينا أن نكتشف دورنا بدل أن نخاف على مستقبلنا وحقوقنا وواجباتنا وامتيازاتنا، ولا سيَّما في الأمور التالية: صيانة التعدّديَّة وثقافة التعدّد، الحفاظ على العروبة. علينا أن نجمع القوى التقدميَّة من المسلمين، ليكونوا في صفوفنا. وننشر بنوعٍ خاص تعليم الكنيسة الاجتماعي الغنِّي جدًا. وهو يرتقي بنا إلى أواخر القرن التاسع عشر.
كما على المسيحيين العرب أن يُسهموا لكي يستعيد العالم الإسلامي وحدته القويَّة والعالميَّة، دون خوف أو تردُّد، فهذا عالمنا، وهذه وحدتنا. إنَّ الوطن العربي في مخاض عسير وعلينا أن نجتهد ليولد مجتمع متعدِّد من خلال العروبة الثقافيَّة وبناء المستقبل المشترك.
ثقتي لا تهتز في أنَّ العقل الإسلامي قادر على استيعاب حضارة العصر، وعلى قدرٍ عظيم من المرونة للمصالحة بين الشريعة ونصوصها وبين متطلبات العصر. ونحن علينا أن نساهم في ولادة الإنسان العربي الجديد.
شرقنا العربي بالرغم من مشاكله فهو يبقى نموذجًا مقبولاً ومعقولاً وممكنًا للعيش المشترك في المنطقة، حيث الديانات الموحِّدة الثلاثة تواجدت وتعايشت بتناغم نسبي ومتفاوت حسب البلدان.
مسؤولية المسيحيين أمام تقسيم العالم العربي
من جهة أخرى، العالم العربي شاب، ويمكن أن يتأثَّر شبابه بسهولة، ويصبح فريسة للأصوليَّة والعنف والإرهاب والكراهية والإسلاميَّة ورفض الآخر تحت تأثير فتاوى متطرِّفة وقادة وشيوخ متطرِّفين مستتفيدين.
الخطر الأكبر الذي يتهدَّد العالم العربي هو ما يسمَّى "العالم العربي الجديد" المنبثق عما يسمَّى "الربيع العربي". إذ أنَّ الصورة التي تبدو في الأفق للعالم العربي الجديد، هي التقسيم والتوزيع الطائفي والمذهبي. فقد نجحت إسرائيل بأن يقبل العالم إعلانها بأنَّها "دولة يهوديَّة" غير آبهة بوجود الفلسطينيين العرب فيها من مسيحيين ومسلمين. والملفت للنظر والمؤسف والمذهل، أنَّه لم يعترض أحد في العالم الأوروبي العلماني الديمقراطي على هذا الإعلان.
وكأنَ العالم الأوروبي يريد أن تكون الدول العربيَّة على شاكلة الدولة اليهوديَّة، أعني مقسَّمة على مبدأ الدين والعرق والطائفة، أعني أن يتقسَّم العالم العربي (سوريا والعراق وسواهما) إلى دويلات وكانتونات وغيتوهات مذهبيَّة: سنيَّة – شيعيَّة – درزيَّة – كرديَّة – يزيديَّة – يهوديَّة وربَّما مسيحيَّة... وقد قرأت الكثير حول هذه المشاريع).
وإذا تمَّ ذلك فإنَّ المسيحيين لن يكون لهم مكان في هذه النظريَّة... وإذ ذاك نصل إلى هذه المعادلة:
1. العالم العربي يعني العالم الإسلامي فقط.
2. دولة يهوديَّة (إسرائيل).
3. أوروبا "مسيحيَّة" (ولو علمانيَّة).
هذا يعني دول أوروبيَّة "مسيحيَّة" تحمي إسرائيل. وهي إذ ذاك تعتبر عدوَّة للإسلام والمسلمين. وهذا ما يمكن أن يقود بتأكيد إلى الصراع المسيحي – الإسلامي وإلى صراع الحضارات والديانات.
وهذا يعني انعدام الحوار المسيحي – الإسلامي – اليهودي. وهكذا يفقد العالم المسيحي الأوروبي مصداقيَّته وإمكانيَّة حواره مع الإسلام والمسلمين. وهذا يعني عدم إمكانيَّة تحقيق سلام بين إسرائيل والعرب وفلسطين. وهذا يعني حروبًا وأزمات، ستكون عاقبتها المزيد من هجرة المسيحيين، وأخيرًا ربما انقراضهم أو تحويلهم إلى أعداد صغيرة جدًا...
هذه هي الصورة التي أراها أمامي من خلال ما يحدث حاليًا في ما يسمَّى الربيع العربي والثورات العربيَّة، والفوضى الخلاّقة، أو الحرب المدمِّرة.
3. العيش معًا ممكن!
"أنظار العالمِ كلّه موجَّهة صوب الشَّرق الأوسط الَّذي يبحث عن طريقه. فلتُظهر هذه المنطقة أن العيش مَعَاً ليس أمراً مثاليَّاً، وأنَّ انعدام الثّقة والأحكام المسبقة ليست أمراً حتميِّاً. فباستطاعة الأديان أن تلتقي مَعَاً لخدمة الخير العام وللمساهمة في تنمية كلّ شخص وفي بناء المجتمع. يعيشُ المسيحيون الشَّرق - أوسطيون منذ قرونٍ الحوارَ الإسلاميَّ – المسيحيَّ. إنه بالنِّسبة لهم حوارٌ عبرَ الحياة اليوميِّة ومن خلالها. ويدركون غنى الحوار وحدودَه. يعيشون أيضاً الحوارَ اليهوديَّ - المسيحيَّ الأكثر حداثة. ويوجد منذ زمن بعيد حوار ثنائيُّ أو ثلاثيُّ الأطراف بين “مُثَقّفين أو لاهوتيِّين” يهودٍ ومسيحيِّين ومسلمين. إنَّه مُختبرُ اللقاءَات والبحوث المختلفة، لا بُدَّ من تعزيزه. تساهم في هذا المجال جميع المعاهد أو المراكز الكاثوليكيّة المختلفة- المعنيّة بالفلسفة واللاهوت وغيرهما – والَّتي أبصرت النُّور في الشَّرق الأوسط منذ زمن بعيد وتعمل أحيانا في ظروف صعبة. أُوجِّه لهم تحيِّةً وديّة وأشجِّعهم على مواصلة عمل السَّلام هذا، مدركين ضرورة دعم كلِّ ما من شأنه التِّصدِّي للجهل وتَنمية المعرفة. الاتِّحاد المفرح بين حوار الحياة اليوميّة وحوار “المثقَّفين أو اللاهوتيِّين” سيساهم حتما، بشكلٍ تدريجيٍّ وبمعونة الله، في تحسين التّعايش اليهوديّ-المسيحيّ، واليهوديّ-الإسلاميّ، والإسلاميّ-المسيحيّ. هذه هي أمنيتي والنِّيّة الَّتي أصلّي من أجلها." (من رسالة البابا بندكتوس السادس عشر، الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة رقم 28).
4. هوية وانفتاح
رسائل بطاركة الشرق الكاثوليك
رسائل بطاركة الشرق الكاثوليك هي تعبير محلِّيٌّ مشرقيٌّ لتعليم الكنيسة الوارد في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني قبل 50 سنة بعنوان "علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية"، وقد قدّمتُ هذه الوثيقة في رسالة بعنوان "رسالة بطريرك عربي مسيحي إلى إخوته المسلمين". في الواقع أكبَّ مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك على دراسة وضع المسيحيِّين المشرقيِّين في إطار وجودهم ودورهم التاريخيِّ في مجتمعهم المشرقيّ العربيِّ ذي الأغلبيَّة المسلمة. وكان هذا موضوع رسائلهم الكثيرة منذ تأسيس المجلس 1991. ومنذ الاجتماع الأوَّل للمجلس. هكذا نقرأ في الرِّسالة الأولى، وفي الاجتماع الأوَّل، فقرة عنوانها مثل عنوان رسالتي هذه، هذا نصّها.
إلى إخوتنا المسلمين
"إنَّنا نتوجِّه إلى إخوتنا المسلمين بقلبٍ مفتوح ونيَّة صادقة. إنَّ عيشنا المشترك الذي يمتدُّ على قرون طويلة يشكِّل، بالرغم من الصعوبات، الأرضيَّة الصَّلبة التي نبني عليها عملنا المشترك حاضرًا ومستقبلًا، في سبيل مجتمعٍ متساوٍ ومتكافئ لا يشعر أحدٌ فيه، أيًّا كان، أنَّه غريب أو منبوذ".
"إنَّنا ننهل من تراثٍ حضاريٍّ واحد نتقاسمه، وقد أسهم كلٌّ منّا في صياغته انطلاقًا من عبقريَّته الخاصَّة. إنَّ قرابتنا الحضاريَّة هي إرثنا التاريخيِّ، الذي نُصِرُّ على المحافظة عليه، وتطويره، وتجذيره، وتفعيله، كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخويّ. إنَّ المسيحيِّين في الشرقِ هم جزءٌ لا ينفصل عن الهويَّة الحضاريَّة للمسلمين. كما أنَّ المسلمين في الشرق هم جزءٌ لا ينفصل عن الهويَّة الحضاريَّة للمسيحيِّين. ومن هذا المنطلق نحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ".
المستقبل وصفته رسائل بطاركة الشرق الكاثوليك في رسائلهم هي دستور مسيحييِّ الشرق على اختلاف اسماء المؤسسات المهتمة بالحضور المسيحي في الشرق.
كما أن وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني هي أيضًا خارطة طريق لتوصيف دور المسيحيين وحضورهم وشهادتهم.
معًا على الطريق!
آن الأوان لكي نحقّق ما دعا إليه بطاركة الشرق الكاثوليك: "معًا على الطريق! مسيحيّين ومسلمين على الطريق!" والمهمّ أيضًا أن تتابع المؤسّسات المسيحيّة التربويّة والثقافيّة والعلميّة والصحيّة والاجتماعيّة، أن تتابع رسالتها اليوم كما في التاريخ رسالة الميلاد!
الشرق مهد المسيحيّة وهو مكان الحوار واللقاء والتفاعل والتوافق والإغناء المشترك. هذا هو تاريخنا... هذا هو تراثنا... هذا هو غنانا... بالرّغم من خلافاتنا ومآسينا وشهدائنا... نحن... والآن... وهنا في الشرق، يمكننا ويجب علينا أن نحافظ على هذا التراث الغنيّ. إنّه تراث الميلاد، يتجسّد في حياة الكنيسة في المجتمع!
خارج هذه البلاد المقدّسة سيكون أكثر صعوبة أن نحافظ على هذا الإرث الخاصّ بكلّ منّا والمشترك بيننا... ومسؤوليّتنا مشتركة أن نحافظ عليه وهنا والآن وغدًا. نحن بكلّ تواضع معلّموا الحياة والعيش المشترك. هنا يمكننا أن نحقّق ما قاله البابا فرنسيس للشباب المسيحيّ: علينا أن نحافظ على هويّتنا .. ونكون منفتحين على الآخر وهويّته وإيمانه ومعتقده ونمط حياته.
سنبقى هنا!
كم مسؤوليتنا جسيمة كبيرة خطيرة عالميّة تاريخيّة أن نبقى هنا. ليس المطلوب أن نضحّي بأسرتنا... ولكن أن نجاهد لنبقى هنا بالرغم من الأخطار والصعوبات والتضحيات.
أصلّي لكلّ من يقرّر أن يذهب. وأدعو بحرارة إلى البقاء هنا!
ومع من يبقى سأبقى وسنبقى، وستبقى المسيحيّة...
البقيّة الباقية ستبقى! ويبقى يسوع من خلالنا...
ابقوا هنا ليبقى يسوع .. وتبقى مريم .. وتبقى المسيحيّة، ويبقى عيد الميلاد عيدنا جميعًا!
تاريخ، حاضر، مستقبل مشترك
تاريخنا في حقبات طويلة معًا!
حاضرنا ومآسينا مشتركة اليوم!
مستقبلنا ببركة الله مشرق معًا!
ولهذا علينا أن نتبنَّى هذا الشعار الذي أردِّده مرارًا:
- يجب أن نبقى معًا! لكي نبني عالمـًا أفضل لأجيالنا الطالعة!
- يمكن أن نبقى معًا! لكي نبني عالمـًا أفضل لأجيالنا الطالعة!
- نريد أن نبقى معًا! لكي نبني عالمـًا أفضل لأجيالنا الطالعة!
إنَّ الحوار روحانيَّة تنقلنا من الاستبعاد إلى الاستيعاب، ومن الرفض إلى القبول، ومن التصنيف إلى التفهّم، ومن التشويه إلى الاحترام، ومن الإدانة إلى الرحمة، ومن العداوة إلى الألفة، ومن التنافس إلى التكامل، ومن التنافر إلى التلاقي، ومن الخصومة إلى الأخوّة.
لا تخف أيُّها القطيع الصغير!
هذه المداخلة تشرح عقيدتنا. وهذا هو موقفنا. وهذا هو موقعنا! وهذا هو دورنا! وهذه هي رسالتنا! إنَّها رسالة حدَّدها لنا السيِّد المسيح قائلاً: "لا تخف أيها القطيع الصغير!"
لا تخف! عبارة وردت في الإنجيل والكتاب المقدس 365 مرة! أعني على عدد أيام السنة. بحيث يعطينا يسوع كلَّ يوم جرعةً إنجيليةً، هي خبزنا الجوهري اليومي لكي لا نخاف. عبارة القطيع الصغير كانت محور مداخلتي في سينودس الأساقفة في روما، ألقيتها يوم الحادي عشر من تشرين الأول بعد الظهر 2012. وفيها أشدِّد على أنَّ القطيع الصغير أراد له يسوع في الإنجيل دوراً كبيراً تجاه القطيع الكبير! بحيث يكون معنى وجود القطيع الصغير ودورُه ورسالتُه في المشرق العربي، حيث وُلِدَ يسوع وولِدَ الإنجيل وولِدَت المسيحيَّة، أن يكون مع ولأجل القطيع الكبير، يحمل له أجمل بشارة سمعتها الأرض وترنَّم بها الملائكة ليلة عيد الميلاد : " أُبشِّركم بفرح عظيم! لقد ولد لكم مخلص" (لوقا 2: 10-11). وُلِدَ لكم يسوع ! وُلِدَ لكم الإنجيل .
أيُّها الأحبَّاء
هنا جذورنا! هنا تاريخنا! هنا تراثنا! هنا قيمتنا! في الخارج نحن قطعة متحف! نحن بضاعة مصدَّرة، نحن غرباء، نحن ضيوف، نحن موضوع تحنن ومساعدة وبكاء! نحن لسنا حتى أقليَّة! بل مجموعة محميَّة!
لا تخف أيها القطيع الصغير ! وكن حاملاً بشجاعةٍ وثباتٍ وفرحٍ وحماسةٍ وتفاؤلٍ ورؤيةٍ في ظلمة هذه الأيام، حاملاً نداء يسوع–الإنجيل الذي يقول لك: كُن نوراً! كُن مِلحاً ! كُن خميرة!"