مصر
29 نيسان 2019, 06:30

إسحق في عيد القيامة: إستيقظ أيّها النّائم!

وجّه بطريرك الأقباط الكاثوليك ورئيس مجلس البطاركة الأساقفة الكاثوليك في مصر الأنبا إبراهيم إسحق، النّعمة والبركة والسّلام في المسيح القائم من الأموات، إلى الإكليروس والعلمانيّين في مصر وبلاد المهجر، في رسالة خاصّة بعيد القيامة على ضوء الآية "إستيقظ أيّها النّائم وقم من بين الأموات فيضئ لك المسيح" (أف 5: 14)، فقال بحسب "المتحدّث الرّسميّ للكنيسة الكاثوليكيّة بمصر":

 

"لعلّ أكثر ما يكرهه الإنسان هو الموت وأبلغ رجاء فى أعماقه هو الخلود، لذا فإنّ القيامة هي رجاء الإنسان فى كلّ العصور؛ ففي تراثنا الفرعونيّ العظيم كتاب جمع الأناشيد والصّلوات وكلّها تنشد الخلود وتؤمن بالأبديّة وبيوم الدّينونة حيث ينال الإنسان إكليل حياته وجهاده وعمله، اسم هذا الكتاب "الخروج الى النّور"( ) أيّ أنَّ الموت هو خروج إلى النّور والبهاء وجوهر الفكر فيه هو الإيمان بقيامة الأموات.
وأكّد الكتاب المقدّس بعهديه على حقيقة قيامة الأموات، وجاء السّيّد المسيح فأقام الموتى إلى الحياة، وأقام ابن أرملة نايين (لو7: 11) وأقام لعازر بعد موته بأربعة أيّام (يو11: 1) وتوّج حياته ومعجزاته وموته بقيامته المجيدة الّتي صارت دعامة الإيمان المسيحيّ ونقطة انطلاق الإنجيل. قام المسيح ليكون باكورة الرّاقدين وظهر على الملأ، شاهده الرّسل والتّلاميذ وكثير من النّاس، فالأناجيل وشهادة المؤرّخين أكّدت ما نردّده نحن اليوم وفي كلّ عيد: قام المسيح... حقًّا قام؛ ولكنّ التّحدّي الحقيقيّ هو في انعكاس قيامة المسيح على حياتنا.
لذا أتأمّل معكم اليوم في دعوة بولس الرّسول الموجّه إلى مؤمني كنيسة أفسس إذ يقول: "استيقظ أيّها النّائم وقم من بين الأموات فيضئ لك المسيح" (أف5: 14).

أوَّلاً: إستيقظ أيّها النّائم 
ليس المقصود بالاستيقاظ هنا النّوم الطّبيعيّ الّذي يحتاج فيه الإنسان إلى بضع ساعات يستريح فيها فيجدّد نشاطه ثم يفيق، إنَّما الكلام هنا عن النّوم الذّهنيّ والرّوحيّ، نوم الغفلة وهي حالة تبدأ ببطئ وتحدث تدريجيًّا حتّى تفقد الإنسان وعيه وهو مفتوح العينين، وفى أثنائها تنمو شرور كثيرة وتتعطّل أجهزة الإنسان الباطن ويفقد الإنسان فيها أسلحة النّور والحياة. وفي الكتاب المقدّس العديد من هذه النّماذج فعلى سبيل المثال يذكر لنا كيف أنَّ عدو الخير زرع الزّؤان في الحقل والنّاس نيام (مت 13: 25).

من ماذا نستيقظ؟ من نوم الكسل، من الكراهيّة والتّعصّب، من نوم الإدمان بكلّ أنواعه، من كلّ أعمال الظّلمة، من النّوم في الأوهام والأطماع فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فهو يحتاج إلى ما هو أعظم وأكبر من إشباع الغرائز، ففي كيانه عطش إلى الله وجوع إلى المحبّة والحنان وإلى السّموّ والتّرقّي، وهذا كلّه يحتاج إلى يقظة روحيّة إلى نورِ المسيح الحيّ القائم وتعاليمه.
إستيقظ أيّها النّائم، نداء موجّه إلى كُلّ مؤمن إلى كُلّ إنسان نائم بين الأموات نائم في الشّرِّ، في محبّة العالم بعيدًا عن نورِ المسيح ومعرفته الحقيقيّة، فالاستيقاظ هو أوَّل فعل علينا أن نقوم به إنْ أردنا أن نحبّ الحرّيّة والسّلام والفرح، في زمنٍ يعّم فيه الغمّ والخوف والصّراع الدّاخليّ والخارجيّ هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى الاستيقاظ هو الاستعداد لقبول تعلّم طرقًا جديدة للعيش وأن نكون واعين لما نقوله وما نفعله وما نفكّر فيه فنعي طريقة تصرّفنا، فالحياة غير الواعية لا تستحقّ أن تعاش! والإنسان المستيقظ هو الواعي، الحاضر بِكُلِّ حواسه وذهنه مع نفسه، ومع الكون ومع الآخرين، هو من لا يعيش حياته بِالشّرود أو الهروب أو التّأجيل أو الإحباط أو اليأس. ففي الاستيقاظ وعي، وفي الوعي قيامة وحياة.

ثانيًا: قم من بين الأموات فيضئ لك المسيح بنوره
هذه دعوة إلى الحياة ليست فقط بعد الموت بل دعوة إلى أن نقوم مع المسيح هنا والآن، كما إنَّها دعوة أن نقيّم حياتنا على ضوء إيماننا بقيامة المسيح، لأنّنا نكرّر ونقول إنَّنا متنا وقمنا مع المسيح، ولكنَّنا مازالنا لا نطلب ما هو فوق ولا نهتمّ بما هو فوق، غارقين في يأسنا وإحباطنا عائشين للعالم خاضعين لمبدأ الأنانيّة والنّفعيّة وحبّ الظّهور، وليس بمبدأ المسيح الّذي هو المحبّة الباذلة العاملة والمجانيّة. قام المسيح قاهرًا سلطان الموت وأضاء لنا معنى الحياة ومعنى الموت ومعنى القيامة.
ما هي ثمار قيامة المسيح الحقيقيّة في حياتِنا؟ ينقلنا الإيمان بِالقيامة من حبّ الشّريعة إلى شريعة المحبّة، ولتحقيق هذه الثّمرة ثمن غالٍ على كافّة المستويات فهي جهاد روحيّ طويل يتطلّب تضحيات كبيرة وإعادة ترتيبات للأولويات في حياتنا. إنَّ ثمار القيامة هى فرح روحيّ وقوّة حياة نعيشها في سلام القلب والثّبات في الرّبِّ، تمنحنا شجاعة الشّهادة للمسيح ومواجهة الضّيقات والصّعوبات. القيامة حالة معاشة يحياها الإنسان ويختبرها ويتمتّع بها فهي تعلن أنَّ الموت ليس نهاية مسيرتنا على الأرض بل هو عبور. فالقيامة هي الّتي أقامت مريم المجدليّة الّتي كانت متحجّرة حتّى أنَّها في وسط حزنها ظنّت أنّ المسيح هو البستانيّ، وعندما ناداها باسمها فرحت بلقاء الرّبّ. القيامة هي الّتي أقامت التّلاميذ من خوفهم حين ظهر لهم المسيح ففرحوا لأنَّهم رأوا الرّبّ (يو20: 20). القيامة هي الّتي تقيم الإنسان من الخطيئة فلا يمكنه أن يقوم من دنس الخطيئة إلّا بقوّة قيامة المسيح الّتي غمرت البشريّة بالفرح. القيامة نور يشعّ في القلوب وكلمة تعلن أنّ محبّة الله أقوى من الموت.
ختامًا:
نرفع صلاتنا متّحدين مع قداسة البابا فرنسيس الّذي يبذل كُلّ جهدٍ ليكون رسول المحبّة والسّلام زارعًا الوحدة والحبّ والتّضامن والاحترام الرّبّ يحفظ حياته ويمتّعه بوافر الصّحّة والعافية. ونصلّي اليوم متّحدين مع سائر البطاركة والأساقفة وكلّ المؤمنين الّذين يحتفلون بعيد القيامة المجيد، من أجل أن يعمَّ السّلام عالمنا المثقل بالآلام والأحزان، نصلّي من أجل جميع الشّهداء ضحايا العنف والتّطرّف والجهل، شهداء نيوزيلاندا وعائلاتهم، وشهداء نيجيريا وعائلاتهم وكلّ الشّهداء الّذين يصعدون إلى ربِّهم وقد لا يشعر العالم بهم.
نصلّي من أجل مصرنا الحبيبة ورئيسنا الّذي يسعى بِكلِّ إخلاص وجهد لبناء ونهضة هذا الوطن، نلتمس من الله عزّ وجلّ أن يحفظه وأن يمدّه بالصّحّة، كما نصلّي من أجل جميع المسؤولين وجنود الوطن، ورجاؤنا قويّ في أن تنهض بلادنا بالمحبّة والعدل والمساواة والإخلاص، تحيّة وإجلالاً للأبطال في سيناء وفي كلّ مكان الّذين يسهرونَ من أجل صيانة الأرواح والحياة، تحيّة لِكُلِّ أمّ تشعل في بيتها نور الحبّ والعطاء، تحيّة لِكُلِّ أبٍ يتفاني في تربية أولاده وخدمة وطنه، تحيّة لكلّ إنسان يجتهد لإسعاد الإنسان الآخر، تحيّة لكلّ إنسان يعمل للسّلام وللتّعايش وخير البشريّة.
صلاتنا أيضًا من أجل بلادنا العربيّة الّتي تعاني الحروب فقد آن الأوان للتّفرّغ لبناء الإنسان ومستقبله ولأجيالنا القادمة، إنَّ الأعياد هي فرصة روحيّة لكي نبادر دومًا بأعمال الخير والعطف على كُلّ إنسان. نلتمس شفاعة أمّنا مريم العذراء، الشّاهدة الأمينة على قيامة المسيح وعلى محبّة الله اللّانهائيّة لمخلوقاته، أن تحفظ شعب مصر في وحدته المقدّسة وإيمانه الثّابت والعميق فننعم بالسّلام والعدل والمحبّة".