مصر
26 كانون الأول 2018, 08:47

إسحق في رسالة الميلاد: طريق السّلام يبدأ حين يقبل الإنسان ذاته ويثق أنّ الله يحبّه

وجّه بطريرك الإسكندريّة وسائر الكرازة المرقسيّة للأقباط الكاثوليك إبراهيم إسحق رسالة ميلاديّة قال فيها بحسب "المتحدّث الرّسميّ للكنيسة الكاثوليكيّة في مصر"، جاء فيها:

 

"بسم الآب والابن والرّوح القدس إله واحد آمين،

من البطريرك إبراهيم إسحق

بنعمة الله، بطريرك الإسكندريّة وسائر الكرازة المرقسيّة للأقباط الكاثوليك، إلى إخوتنا المطارنة والأساقفة، إلى أبنائنا الأعزّاء القمامصة والقسوس، الرّهبان والرّاهبات والشّمامسة، وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة في مصر وبلاد المهجر.
النّعمة والبركة والسّلام في المسيح ملك السّلام
''المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة'' (لوقا 2: 14)

 

مقدَّمة
​ما الّذي يحتاج إليه الإنسان والأسرة البشريّة، حاجة ماسة وملحّة ومتّصلة؟ إنّها الحاجة إلى السّلام، فهو هبة من الله لكلّ إنسان نقيّ القلب وهو الدّليل الأكيد على حضوره في قلب الإنسان. 
السّلام هبة الله وعمل البشر " طوبى لصانعي السّلام فإنّهم أبناء الله يدعون" (متّى 5: 9)، هو عطش روحيّ دائم بدونه لا تستقيم حياة الإنسان، وهو غاية الحياة وسبيلها إلى الارتقاء والتّنمية، فلا حضارة ولا أمن ولا استقرار بدون سلام حقيقيّ.
أوّلاً: السّلام مهدّد من اللّامبالاة
اللّامبالاة هي موقف من يُغلق قلبه حتّى لا يضع الآخرين في عين الاعتبار، ويغلق عينيه حتّى لا يرى ما يحيط به فلا تلمسه مشاكل الآخرين. وللأسف في عصرنا تخطّي هذا الموقف الإطار الفرديّ ليأخذ بعدًا عالميًّا.
إنَّ أوّل مظاهر اللّامبالاة هي تجاه الله، والّتي منها تنبع اللّامبالاة تجاه القريب والخليقة. يمرّ عالمنا المعاصر بموجات تحاول أن تطفئ نور الله في أعماق الإنسان، فهناك دعوة إلى الحياة من أجل الحياة فقط، فلا دينونة ولا مكافأة للصّالحين، إذ يعتقد الإنسان أنّه صانعٌ ذاتَه وحياتَه والمجتمعَ، وبالتّالي بأنّه مكتف ولا يدين لأحد بشئ إلّا لنفسه، ويدّعى أنّه يملك حقوقًا فقط، وهناك من لا يرى في الإنسان إلّا حزمة غرائز تنهش وجدانه وتزلزل كيانه، ناسيًا أنّه مخلوق على صورة الله ومثاله، خلقه الله عن محبّة وأحبّه لذاته ومصيره إليه.
أمَّا اللّامبالاة تجاه القريب فلها وجوه متعدّدة، هناك من هو مطلع بشكل جيّد، يستمع ويقرأ ويشاهد البرامج، لكنّه يقوم بذلك بطريقة فاترة، وكأنّه في حالة إدمان؛ بمعنى أنّه يعرف ما يصيب البشر من مآسي، ولكنّه لا يشعر بها، ويبقى نظره وعمله موجّهين إلى نفسه فقط. إنّ نمو المعرفة والمعلومات في زمننا لا يعنى بحدّ ذاته الاهتمام بالمشاكل، ما لم يرافقه انفتاح الضّمير، أيّ أن يتحوّل إلى تضامن حقيقيّ.
وجه آخر من اللّامبالاة من يفضّل عدم البحث وعدم الاستعلام، عائشًا فى رفاهيّته وراحته غير مبال لصرخة ألم البشريّة المعذّبة، كما لو كان كلّ شيء هو مسؤوليّة غريبة ليست من اختصاصه. كيف يمكن للإنسانيّة أن تمتلك سلامًا حقيقيًّا، وغالبيّة البشر في فقر وألم وعوز، وربّما في جهل. يقول الوحي: "العدل والسّلام تلاثما" (مز 85: 10) فلا سلام بدون حياة صالحة، ولا حياة صالحة بارّة بدون تضامن حقيقيّ.
أمّا اللّامبالاة تجاه الطّبيعة، فإنّ تلوّث الماء والهواء والاستغلال العشوائيّ للخيرات ودمار البيئة هي غالبًا ثمرة لا مبالاة الإنسان تجاه الآخرين. فكلّ شيء مرتبط ببعضه البعض.
هناك ارتباط وثيق بين تمجيد الله وسلام البشر على الأرض، لأنّ اللّامبالاة تجاه الله والقريب تسبّب انغلاقًا وتهرّبًا من الالتزام، وبالتّالي غياب السّلام مع الله والقريب والخليقة.
ثانيًا: طوبي لصانعي السّلام فإنّهم أبناء الله يدعون (متّى 5: 9).
إنَّ قيم الحرّيّة والاحترام المتبادل والتّضامن، يمكن نقلها منذ سنوات الطّفولة الأولى "فإنّ كلّ بيئة تربويّة يمكن أن تكون مكانًا للحوار والإصغاء، يشعر فيه الشّباب بقيمة قدراته وغناه الدّاخليّ، يتعلّم كيف يتذوّق الفرح النّابع من العيش اليوميّ للمحبّة للقريب، ومن المشاركة في بناء مجتمع أكثر إنسانيّة وأخوّة"() 
تشكّل العائلة المكان الأوّل لزرع ثقافة السّلام والتّضامن؛ حيث تعاش وتنقل قيم المحبّة والأخوّة والتّعايش والاهتمام بالآخر. إنّ العائلة كما يشير سينودس العائلة وسينودس الشّباب هي البيئة المميّزة لنقل الإيمان، بداية من أولى بودار التّقوى البسيطة الّتي تعلّمها الأمّهات لأبنائّهن.
يتعلّق الأمر بعد ذلك بالمربّين والمكوّنين فى المدارس ومراكز التّجمّعات للأطفال والشّباب، وعلى هؤلاء أن يدركوا أنّ مسؤوليّتهم تتعلّق بالأبعاد الرّوحيّة والخلقيّة والاجتماعيّة للشّخص.
أمّا العاملون في الحقل الثّقافيّ والإعلاميّ ووسائل الاتّصالات الاجتماعيّة، فإنّ مسؤوليّتهم كبيرة في مجال التّربية والتّنشئة نظرًا إلى اتّساع إمكانيّة الدّخول إلى هذه الوسائل. ويقوم واجبهم فى أن يضعوا أنفسهم في خدمة الحقيقة لا المصالح الخاصّة، فالتّربية تؤثّر إيجابًا أو سلبًا على تنشئة الأجيال كلّها.
ثالثًا: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السّلام وفي النّاس الفرح والمسرّة (لوقا 14:2).
"لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم..." (يوحنَّا 27:14) هذه كلمات السّيّد المسيح إلى تلاميذه؛ وكذلك بعد القيامة بادرهم بقوله "السّلام لكم" في كلّ مرّة يظهر لهم (يوحنَّا 20 :19-21). وفي بشارته لمريم بادرها الملاك بقوله "السّلام لك يا مريم" وبالتّالي إفرحي يا مريم لأنّ السّلام يولد الفرح، كما يقول القدّيس أغسطينوس: "لا توجد كلمة تبعث فينا السّرور وتهزّنا من الأعماق عند سماعها أكثر من كلمة السّلام"().
والقدّيس بولس في أغلب رسائله يبدأها "النّعمة و السّلام من الله الآب ومن ربّنا يسوع المسيح" (1كورنثوس 3:1؛ غلاطية3:1 ) "فسلام الله يفوق كلّ عقل"(فيلبي 7:4).
ولكنّ السّلام مسيرة حياة، تبدأ من قلب الإنسان التّائب عندما يكتشف المتناقضات في داخله؛ بين الرّغبة في النّموّ الذّاتيّ والغيرة من الآخرين، بين فهم الوداعة والاعتقاد بأهمّيّة القوّة والسّلطة، يبدأ السّلام عندما يعترف الإنسان بوجود عدم قبول لبعض الاشخاص لاختلافهم عنه، وعندما يكتشف مشاعر عنف تجاههم ورغبة في ردّ الضّربة بأشّد منها، خاصّة تجاه مَن أساؤوا إليه وجرحوه .
إنّ طريق السّلام يبدأ حين يقبل الإنسان ذاته ويثق أنّ الله يحبّه كما هو، ويدعوه إلى التّصالح مع غضبه وتاريخه وصعوباته، وإلى خلق جسور تفاهم وتقابل بين النّاس فلا يتحوّل الاختلاف إلى صراع ونزاع، ولا يصبح العنف حلّاً للخلافات، فإنّ الإنسان الآخر أهمّ من موضوع الخلاف. () لن يسعنا أن نكون صانعي سلام إلّا بالتّأمّل في شخص الرّبّ يسوع صاحب هذا العيد وفي كلماته وأفعاله، وبفضل صلاة صادقة حارّة وملحّة لننال نعمة السّلام في قلوبنا.
هذا هو عيد الميلاد الّذي نحتفل به، فالمجد لله بتجسّد الكلمة الأزليّ، وعلى الأرض السّلام بشريعة المحبّة، وللإنسان الفرح والمسرّة لمحبّة الله له.

 

خاتمة
نرفع صلاتنا متّحدين مع قداسة البابا فرنسيس الّذي يصلّي من أجل شرقنا العزيز، وبدأ زيارته لمنطقتنا العربيّة مصر وقريبًا الإمارات... ليؤكّد وحدة الجنس البشريّ، فليبارك الرّبّ خطوات المحبّة والسّلام. نتّحد مع الآباء المطارنة وكلّ بطاركة وأساقفة كلّ الكنائس في الصّلاة والفرحة. من هذه الكنيسة نصلّي من أجل وطننا الغالي مصر، ومن أجل سيادة الرّئيس عبد الفتّاح السّيسي ونبعث إليه برسالة محبّة وتقدير على جهوده من أجل نهضة مصر وازدهارها وبناء السّلام في العالم. تحيّة إلى قوّاتنا المسلّحة ورجال الشّرطة وإلى كلّ شرفاء هذا الوطن، ولا ننسى شهداءنا فهم إكليل مجد للحاضر والمستقبل. نصلّي من أجل الأمّهات والآباء الّذين يسهرون على تربية أبنائهم ويبذلون حياتهم لبناء مستقبلهم، ونبعث رسالة المحبّة والسّلام إلى أبنائنا في بلاد المهجر ونقول لهم إنّ مصر بخير وفي طريق التّقدّم والبناء. تهنئة وبركة إلى كلّ الشّباب الّذي كان موضوع صلاة وتفكير ودراسة سينودس الأساقفة الكاثوليك في أكتوبر الماضي بروما، وستواصل الكنيسة الكاثوليكيّة في مصر بتكريس عام ٢٠١٩ للصّلاة والعمل مع الشّباب ومن أجله. فباسم الكنيسة نؤكّد لهم أنّهم جزء أساسيّ وحيويّ منها وكما أنّ لهم حقوقًا فعليهم مسؤوليّة، تحيّة لكلّ الشّباب الّذي يتّحد للقيام بأعمال تضامن وبناء لفائدة القريب المحتاج، لأنّهم كفاعلي سلام سيدعون أبناء الله (متّى 9:5). في الختام أجدّد الدّعوة لعدم فقدان الرّجاء بنعمة الله وقدرة الإنسان على تخطّي الشّرّ وعدم الاستسلام، فهيّا نتغلّب على اللّامبالاة ونكسب السّلام".