إتَّقت الله فتغرَّبت عن العالم
لم تبدِ القدّيسة اعتراضًا أمام ذويها، علمًا أنَّ قلبها وهواها كانا يميلان للحياة الرّهبانيَّة، لكن في سرِّها عزمت على الهروب من منزلها الأبويّ سرًّا، قبل بلوغ موعد الزَّواج. واستعدادًا لذلك، أقرَّت بالأمر لإثنتين من خادماتها فقرَّرتا مرافقتها. وقد حوَّلت لهما كلَّ هدايا زفافها لتوزيعها على المحتاجين قبل رحيلهنَّ.
ولمّا حان الموعد المنتظر، رحلت الفتيات الثَّلاث من المنزل متخلِّياتٍ عن كلِّ شيءٍ محبَّةً بالمسيح.
في مركبٍ، توجَّهن أوَّل الأمر إلى الإسكندريَّة، ومنها انتقلنَ إلى جزيرة "كوس" kos اليونانيَّة. هناك وجدنَ منزلًا معزولًا فأوينَ إليه. ولتحافظ أفسافيا على سرِّها فلا يتعرَّف عليها أحدٌ، غيَّرت اسمها وصارت تُدعى كساني ومعناه "الغريبة".
وهنا بدأت رحلة البحث عن أبٍ روحيٍّ، يُعلِّمهنَّ أصول الحياة الرّهبانيَّة الرّوحيَّة، الّتي بدونها يكون الرّاهب تائهًا عن هدفه وقد يحيد عنه. فما كان من القدّيسة إلّا أن لجأت للرَّبِّ تصلّي له ليحقِّقَ لها ذلك، كما دبَّر خروجها من بيتها ووصولها إلى هذه الأرض، وكما دبَّر سابقًا بولس، وأرسله ليرشد تقلا أولى الشَّهيدات.
وما هي إلّا فترةً وجيزةً حتّى أرسل الرَّبُّ لها رئيسَ ديرٍ يُدعى بولس، تبدو على ملامحه علاماتُ الوقار والتَّقوى، كان عائِدًا في طريقه من أورشليم إلى ديره في ميلاسا شمالي شرقيّ الجزيرة. فلجأت إليه الفتيات الثَّلاث، فعرض عليهنَّ مرافقته للتَّرهُّب في منسكٍ بالقرب من ديره.
هناك أقامت المتبتِّلات الثَّلاث، وبنَينَ لأنفسهنَّ كنيسةً على اإسم أوّل شهداء المسيحيَّة إستفانوس، الّذي ما لبثأن أصبحَ ديرًا بعد توافد عددٍ كبيرٍ من النِّسوة الرّاغبات في حياة التَّبتُّل والعفَّة والاتِّضاع، بإرشاد القدّيسة كساني الّتي عُيِّنت شمّاسةً بعد تنصيب بولس الرّاهب أسقفًا لميلاسا.
وفي سردٍ لمسيرتها بحسب شهود عيانٍ ورهبانٍ عاصروها، شابهت كساني بأسلوب حياتها الملائكة، فقد جاهدت بالمواظبة على الصَّلاة بدون انقطاعٍ أو تخاذلٍ، وعلى الصَّوم بحيث كان طعامها يقتصر على الخبز اليابس مرَّةً كلَّ ثلاثة أيّامٍ وفي زمن الصَّوم مرَّةً في الأسبوع، ممزوجًا بدموع التَّوبة، حتّى أصبحت مثلًا حيًّا لقول المزمور الأوَّل (1- 9) "أكلت الرَّماد مثل الخبز ومزجت شرابي بدموعي".
وبشهادة رفيقتيها، فإنَّ كساني عُرفت بوداعتها ومحبَّتها الّتي لم تنقص يومًا، وبديمومة سجودها للخالق طوال اللّيل وأحيانًا حتّى طلوع الفجر. ولمّا دنت ساعة مغادرتها لهذا العالم، قرَّرت أن تتركه ساجدةً شاكرةً لكلِّ ما صنع معها الرَّبّ، فقد ودَّعت رفيقتيها ومنحتهما بركاتها وإرشاداتها وأقفلت على نفسها الباب في الكنيسة لحين رقادها. وقد أكَّد العديد من شهود العيان الّذين حضروا لوداعها، أنَّ رائحة الطّيب فاحت حينها في كلِّ أرجاء المكان، وأنَّ عددًا من المرضى نالوا الشِّفاء بالتَّبرُّك من رفاتها.
أمّا رفيقتيها، فقد رقدتا بعد فترةٍ وجيزةٍ من رقادها، وكأنَّهما بقيتا على العهد معها في الرُّقاد كما في الحياة.