إبراهيم من مار جرجس حارة التّحتا- زحلة: كيف نعود إلى الله بصدق؟
بعد الصّلاة كانت لابراهيم كلمة روحيّة بعنوان "الصّوم كرحلة نحو القلب: كيف نعود إلى الله بصدق؟" قال فيها: "إنّ الصّوم ليس مجرّد تقليد دينيّ، بل هو رحلة روحيّة نحو عمق القلب، حيث يلتقي الإنسان بالله في حميميّة جديدة. هذه الرّحلة تتطلّب استعدادًا داخليًّا، لا يقتصر فقط على الامتناع عن الطّعام، بل يمتدّ ليشمل تجديد العلاقة مع الله، إعادة ترتيب الأولويّات، وتوجيه القلب نحو ما هو أبديّ. يقول النّبيّ يوئيل: "ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ" (يوئيل 2: 12). هذه الدّعوة الإلهيّة تكشف لنا أنّ الصّوم ليس مجرّد ممارسة خارجيّة، بل هو فعل قلبيّ يستلزم التّوبة والتّجدّد. إنّه فِعل رجوع إلى الله."
وأضاف: "في التّقليد المسيحيّ، يُنظر إلى الصّوم كزمن للتّجديد الدّاخليّ، حيث يُطلب من المؤمنين أن يتوقّفوا عن العادات السّطحيّة، ويفكّروا في المعنى الأعمق لحياتهم. القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ يشير إلى أنّ "الصّوم لا يكون صومًا حقيقيًّا إن لم يغيّر القلب". الصّوم هو وقت نتخلّى فيه عن الأشياء الّتي تشتّت انتباهنا، لنسأل أنفسنا: أين نحن من الله؟ هل مسيرتنا الرّوحيّة تقودنا إلى مزيد من العمق، أم أنّنا ما زلنا عالقين في القشور الخارجيّة للإيمان؟".
وتابع: "الصّوم هو دعوة للعودة إلى الله بصدق. في مَثَلِ الابن الضّالّ (لوقا 11:15-32)، نرى كيف أنّ العودة إلى بيت الأب لم تكن مجرّد فعل جسديّ، بل كانت تحولًا داخليًّا عميقًا. "وَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ" (لوقا 17:15)، هذه العبارة تعبّر عن لحظة وعي روحيّ حقيقيّة. الصّوم هو فرصة لهذا الوعي، هو لحظة نعيد فيها تقييم حياتنا ونسأل: هل نحن فعلًا في بيت الأب، أم أنّنا تائهون في أرض بعيدة؟
إنّ القلب البشريّ، وفقًا لتعليم الآباء، هو مركز الرّوح، وهو المكان الّذي يحدث فيه اللّقاء الحقيقيّ مع الله. اللّاهوتيّ الرّوسيّ فلاديمير لوسكي يرى أنّ "التّوبة الحقيقيّة ليست مجرّد تغيير في الأفعال، بل هي تحوّل عميق في القلب نحو الله". من هنا، يصبح الصّوم رحلة نحو الدّاخل، حيث نكتشف مدى حاجتنا إلى الله، ونختبر عمق محبّته الّتي تدعونا دائمًا للعودة."
وأردف: "لكن هذه الرّحلة ليست سهلة، فهناك العديد من العوائق الّتي تمنعنا من العودة إلى الله. أحد أخطر هذه العوائق هو الانشغال الدّائم بالحياة اليوميّة. العالم الحديث يفرض علينا إيقاعًا سريعًا، يجعلنا ننسى الحاجة إلى التّوقّف والتأّمّل. لذلك، الصّوم هو دعوة للهدوء، دعوة لإعادة توجيه القلب نحو الأولويّات الحقيقيّة. القدّيس أوغسطينوس يقول: "لقد خلقنا الله لذاته، وقلوبنا لن تجد الرّاحة إلّا فيه". فهل نبحث عن الله كأولويّة أم نترك انشغالاتنا تسرق منّا علاقتنا به؟
التّوبة هي مفتاح هذه العودة. لكن التّوبة الحقيقيّة ليست مجرّد مشاعر ندم، بل هي فعل إراديّ يأخذ شكل تغيير حقيقيّ في الفكر والسّلوك. الصّوم يعطينا الفرصة لنفحص قلوبنا بصدق، لنرى إن كنّا قد ابتعدنا عن الله، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكننا أن نعود؟ يقول يسوع: "تُوبُوا، فَإِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (متّى 2:3). إنّ التّوبة ليست فقط تخلّصًا من الماضي، بل هي استعدادٌ للعيش في الحاضر بطريقة جديدة، مستنيرة بنور الله."
وتابع: "فلنتذوّق في هذا الصّوم جمال وبهاء العودة، لأنّ العودة ليست مجرّد رجوع إلى نقطة البداية، بل هي عبور متجدّد نحو الصّفاء، نحو الذّات الّتي ضلَّت طريقها في زحمة الأيّام، ونحو الله الّذي لا ينفكّ ينادينا بحبّه الصّامت عبر خفقات القلوب وأسرار الأكوان.
هي عودة إلى الذّات حينما نُميط الأقنعة عن أرواحنا، فنكتشف أنّنا لسنا غرباء عن أنفسنا، بل كنّا فقط تائهين في سراديب الزَيْف. وحينما نرتوي من نبع الصّدق الدّاخليّ، ندرك أنّ العودة إلى الذّات هي ولادة جديدة، لا يشوبها الخوف من الحقيقة، بل يعانقها نور الوعي."
وتابع: "هي عودة إلى الله حين ينهكنا التِّيه، فنرفع أبصارنا لنجد أنّه كان معنا طوال الطّريق، كظلٍّ لا يفارقنا، وكهمسة حبّ في كلّ نَفَس. العودة إلى الله ليست تراجعًا، بل تقدّمٌ نحو النّور، نحو الرّحمة الّتي وسعت كلّ شيء، نحو العهد الأوّل الّذي نسيته أرواحنا بين زَيْف الدّنيا وضجيج الرّغبات.
هي عودة إلى الحقّ والخير والجمال حين نستفيق من سُبات الأنانيّة، ونرى أنّ الحقّ ليس حملًا ثقيلًا بل جناحًا يرفعنا، وأنّ الخير ليس ترفًا بل غاية الوجود، وأنّ الجمال ليس زخرفًا بل انعكاسٌ لله في كلّ ما هو صادق ونقيّ.
العودة هي انبعاث الرّوح بعد غفلتها، هي ارتحالٌ في الدّاخل، لا يشبه أيّ سفر، حيث الوجهة هي النّور، والزّاد هو الشّوق، والطّريق مرصوفٌ بالنّدم المقدّس وبالأمل الّذي لا يخبو."
وإخنتم المطران إبراهيم: "إنّ الصّوم هو رحلة نحو القلب، حيث يكتشف الإنسان معنى الحياة الحقيقيّة في الله. هذه الرّحلة ليست مجرّد طقس، بل هي مسيرة تحوّل داخليّ، حيث نجد في التّوبة والعودة إلى الله مصدر قوّة وسلام. لنسأل أنفسنا اليوم: هل صومُنا هو مجرّد عادة، أم أنّه فعل حبّ ورغبة حقيقيّة في الاقتراب من الله؟ هل نسمح للصّوم بأن يغيّر قلوبنا، أم أنّنا نكتفي بالمظاهر الخارجيّة؟ الصّوم هو نداء للعودة، فلنستجب له بكلّ قلوبنا، لأنّ الله ينتظرنا دائمًا بذراعين مفتوحتين. آمين."
بعد الصّلاة التقى المطران ابراهيم أبناء الرّعيّة في صالون الكنيسة واطمأنّ إلى أوضاعهم.