لبنان
21 شباط 2023, 09:45

إبراهيم: زمن الصّيام هو زمن اختبار الصّمت بامتياز

تيلي لوميار/ نورسات
في اليوم الأوّل من الرّياضة الرّوحيّة الّتي تقيمها كاتدرائيّة سيّدة النّجاة- زحلة، ألقى راعي أبرشيّة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران إبراهيم إبراهيم العظة الأولى، محورها: الصّمت، وقال:

"بدأنا اليوم مسيرةَ حَجِّنا الصّياميّة للعام 2023. هو زمن الصّوم والقطاعة من جهة، وهو زمن عمل المحبّة الّتي هي أساس كلّ شيء وزمن الصّمت المقدّس الّذي هو أساس لتقديسنا من جهة ثانية. فالصّمت يعطي مجالاً للصّلاة والتّأمّل ويفتح المجال للإصغاء لما يريد أن يقوله الله لنا. فالإنسان الكثير الكلام، ليست لديه فرصة للصّلاة، وليست لديه إمكانيّة للعمل الرّوحيّ. وقد صدق أحد القدّيسين في قوله: (الإنسان الكثير الكلام يدلّ على أنّه فارغ من الدّاخل) أيّ فارغ من العمل الرّوحيّ الدّاخليّ. والقدّيس أرسانيوس لمّا سُئِلَ عن صمته ووحدته، أجاب: إنّي لا أستطيع أن أكون مع الله والنّاس في وقت واحد.  

الصّامتون يقتدون بالمسيح الصّامت الّذي تنبّأ عنه أشعياء قائلاً: ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. (إش 53). يسوع كان صامتًا عند محاكمته، سواء أمام المجمع، وأمام حنّان، وقيافا، وبيلاطس... وكان في صمته قوّةٌ، لدرجة أنّ بيلاطس الوالي قال: لست أجد علّة في هذا البارّ.

زمن الصّيام هو زمن اختبار الصّمت بامتياز ففيه نرى أنّ الصّمت يشمل أنواعًا كثيرة منها: صمت اللّسان، وصمت الحواس. ذلك لأنّ الحواس إذا ما انشغلت ولم يضبطها الإنسان، فإنّها تؤذيه وقد تدمِّره وتعطُّله عن الصّلاة والتّأمّل. فالّذي يريد أن يصمت بطريقة روحيّة، عليه أن يحفظ نظره وأذنيه وباقي حواسه..

إنّ الكلام عن الصّمت يحمل في ظاهره تناقضًا واضحًا لا يمكن للمتأمّل تخطّيه إلّا بالنّظر إلى الموضوع بعين الباحث عن الحقيقة في عالم المتناقضات الّذي يكتنفنا من الدّاخل ومن الخارج. والتّناقض بعين العاقل ليس مدعاة للخوف على الحقيقة لأنّ الحقيقة هي الألف والياء والكلّ في الكلّ وهي تحبل بكل المتناقضات لتلد ذاتها: حقيقةً شاملة غير مُجتزّأَة.

وطرح موضوع الصّمت ليس امتهانًا للكلام بل دعوةٌ مفتوحة لكلّ إنسان ليعطي من صمته قيمة لكلامه. بحيث تصبح هيكليّة كلامه مبنيّة على أسس هيكليّة صمته كيما يتّحد كلامه وصمته في هيكليّة موحّدة تنّم عن شخصيّة غير منفصمة ولا منقسمة، بل ملتفّة بكلّ أبعادها وقواها حول الحقيقة الّتي منها يستمدّ كلّ إنسان قيمته الأصليّة.

ظاهرة معقّدة

ليس الصّمت ظاهرة بسيطة يمكن التّحدّث عنها وتحليل أبعادها في أسطر قليلة، بل على عكس ذلك إنّه ظاهرة معقّدة لا يمكن فكّ رموزها بسهولة ولا التّعريف عنها ببساطة. فبواسطة الصّمت نعبّر عن مشاعر وأفكار وأماني وحالات نفسيّة متنوّعة، ويختلف تعبير كلّ واحد باختلاف شخصيّته ونوع عمله وموقعه الاجتماعيّ. فصمت الشّاعر ليس كصمت الفيلسوف، وصمت الصّيّاد ليس كصمت البحّار، وصمت القاتل ليس كصمت ضحيّته أو كصمت الشّاهد على جريمته. وأمام صمت هذا أو صمت ذاك علينا أن نقف موقفًا مناسبًا، فصمت القاضي علينا انتظاره، وصمت المصلّي علينا احترامه، وصمت مريض القلب علينا تشجيعه، وصمت من أصابه انهيار علينا إيقافه... وهكذا تبدو لنا صورة الصّمت كصورة الكلمة، فللصّمت معانيه المتنوّعة كما هو بالطّبع للكلمة. وبما أنّ هنالك كلمة قائلة (ذات معنى) وكلمة مقولة (دون فائدة)، هكذا نجد بالمقابل صمتًا معبّرًا وصمتًا لا عبرة فيه. ويذهب بعض الفلاسفة بعيدًا في تفضيل الصّمت على الكلمة واعتباره أحيانًا وسيلة أكمل للتّعبير، "فبالصّمت التّامّ يقول كارل ياسبرسKarl Jaspers ، يتحقّق الاتّصال الأكمل."  

ومن يجدّ في تثقيف وإغناء كلامه عليه بالمقابل أن يجدّ لتثقيف وإغناء صمته حتّى يصير لصمته كما لكلامه فائدة ومعنى. فقيمة الصّمت كقيمة الكلام تكمن في مفاعيله ونتائجه. لكن التّعرّف والتّحقّق من قيمته تبدو غاية في الصّعوبة، فصمت اثنين أو ثلاثة فيما بينهم قد ينّم عن اتّفاق أو عن اختلاف، عن فرح أو عن غمّ، عن غضب أو عن هدوء... كما قد ينّم أيضًا عن اكتفاء أو عن تفهّم متبادل أو عن عاطفة مشتركة أو انعدامها. فصمت البشر إمّا أن يولّد بينهم دفئًا وإمّا أن يولّد جليدًا، وعلامة الرّضى المفترضة قد تكون علامة اعتراض أكيد.

وقيمة الصّمت تكمن في الانسجام بين شقّيه الخارجيّ والدّاخليّ، وعلى أساسه نميّز الصّمت الأصيل من الصّمت المزيّف. يقول غوارديني: "الصّمت يجب ألّا يكون خارجيًّا فقط لأنّ الصّمت الحقيقيّ يشمل أيضًا الأفكار والمشاعر والقلب ويجعلها في سلام. الصّمت الحقيقيّ يلفّ الرّوح ويشقّ طريقه إلى عمق النّفس". فالفرق شاسع بين صمت من ليس له شيء يقوله وصمت من لديه كلّ شيء ليقوله.

وللصّمت الأصيل أنواعه ودرجاته، ونرى ذلك خصوصًا عند كثيرين من الكتّاب الرّوحيّين ومؤسّسي الرّهبانيّات التّوحّديّة الصّامتة. فالصّمت الّذي تمارسه هذه الجمعيّات له ميزاته وشكليّاته وقيمه الخاصّة، بحيث أنّ صمت التّرابيست (المعالج النّفسيّ) ليس كصمت أخوة يسوع الصّغار أو كصمت الكرمليّين... ومن بين درجات الصّمت نذكر عن سبيل المثال لا الحصر: صمت المخيّلة والذّاكرة والقلب والطّبيعة ومحبّة الذّات والفكر والإرادة والصّمت مع الذّات ومع الله.  

صمت وإصغاء  

إنّ الأزمنة الّتي نعيش فيها تفتقر إلى الصّمت والانسجام. فليس لنا إلّا أن نجيل الطّرف حولنا وفي العالم الّذي يحيط بنا حتّى نرى إلى أيّة درجة قد اختفى الصّمت لتبرز بالمقابل سحابات الضّجيج وغيوم الثّرثرة الكثيفة. ضجيج وثرثرة يكتنفان الإنسان من داخله ومن خارجه حتّى باتت الحالة الدّاخليّة لأولئك الّذين يصمتون تختلف كلّ الاختلاف عن حالة الصّمت الحقيقيّة. نحوك ضجيجًا فنغدو ضجيجًا، ويفقد الصّمت الدّاخليّ قيمته الواقعيّة ليتحوّل إلى ثرثرة مكتومة الصّوت.

وبما أنّ الصّمت هو مولّد الكلمة والإصغاء على السّواء، فبضياعه تضيع الكلمة المفيدة والإصغاء الواعي. لذا لا بدّ من الصّمت لفهم أيّة كلمة تقال مهما عظمت أهميّتها أو حتّى مهما كانت سخيفة.

إنّنا نعيش في زمن لا نشعر معه بضرورة إعارته انتباهنا. فكلّ شيء حولنا يحدّثنا عن ذاته قسرًا ولا يهمّه أن يصغي إلينا. الإصغاء أصبح خارج الموضة وطاقة الإصغاء للقريب بل لذواتنا أيضًا باتت شبه مستهلكة. فلا أحد يصغي لأحد، وإلامَ نُصغي؟ ولمن؟ فلنلاحظ في مجتمعنا الكلّ يتكلّم ولا أحد يصغي، ربّما لأنّ عدم الإصغاء بات سلاحًا يدافع المرء به عن ذاته الّتي أصبحت موضوع ألف حديث ورسالة وإعلان ودعاية وأخبار لا نهاية لها. لو باستطاعتنا أن نكون تلامذة في الإصغاء بدل أن نكون معلّمي كلام لتحوّل البشر دون شكّ إلى تعايش أفضل.

بالإصغاء الصّامت وحده نستطيع أن نحاور وأن نفهم الآخر المختلف عنّا، انطلاقًا من حقيقته وواقعه وأفكاره هو، الّتي تكوّن لنا بمجملها غنى لا يُستغنى عنه. إنّ الإصغاء الدّاخليّ لهو دليل على أنّ كلّ شيء فينا يستقرّ في مكانه الصّحيح وأنّ كلّ شيء فينا يصغي وأنّ لساننا وفمنا يحفظان الصّمت ليصغيا للقلب الّذي يتكلّم. وحده الّذي يصمت قادر إذا ما تكلّم أن يراقب كلماته، شرط أن يكون صمته وإصغاؤه صمت الانفتاح وإصغاء الانفتاح، لا صمت الانغلاق وإصغاء الانغلاق اللّذين يحوّلان حديث الآخر إلى وقت ضائع والحوار معه إلى حديث ميت. بإختصار، الصّمت يمكنه أن يكون للإصغاء درب صليبه أو فصح قيامته.

صمت أمام الله  

إنّ مثالنا في الصّمت أمام الله هو ذلك الإنسان النّاسك الّذي يفتّش في صمته عمّن لا يمكن للكلمة أن تهدينا إليه وتحدّثنا عنه. "فالصّمت، يقول القدّيس غريغوريوس، هو بيت النّاسك الّذي يرى في الله سيّد الصّمت". فعندما نتحدّث عن الله تصبح كلّ كلماتنا البشريّة القاصرة كمبتلى بالعمى يفتّش عن ينبوع ماء. لذا فإنّ كلام النّاسك ليس رحلة يتمّها بدافع محبّة القريب في حين يبقى الصّمت وطنه الأكيد. ولأنّ الصّمت هو جوهر النّسك.

فإنّ دراسة أحد المتنسّكين في أبعاد حياته الرّوحيّة تركّز على صمته أكثر ممّا تركّز على كلماته، ذلك لأنّ كلماته تعجز عن وصف خبراته الرّوحيّة العميقة الّتي تزرع في الصّمت لتنمو فيه. القدّيسة تريزا الطّفل يسوع عبّرت مرارًا عن هذا العجز الّذي كانت تحسّ به أمام محاولاتها وصف اختلاجات نفسها بقولها: "إنّها نِعَم لا يمكن التّحدّث ولا الكتابة عنها لأنّها لا تدخل مدارك فهم من لم يختبرها". لذا فإنّ من يتعمّق في دراسة كتابات النّسّاك يدرك أنّها لا تعكس سوى جزء بسيط من حقيقة خبراتهم التّأمّليّة الصّامتة الّتي يعجز التّعبير عنها. يقول القدّيس يوحنّا الصّليبي: " إنّ الأهمّ في طريق تكملنا أمام هذا الإله الكبير هو أن نسكت منّا اللّسان وشهيّة الكلام لأنّ اللّغة الّتي يصغي اليها هي المحبّة الصّامتة ".

لكن الصّمت ليس فقط اللّغة الّتي نتوجّه بها إلى الله بالمحبّة لنعبّر له عن مشاعرنا وعبادتنا، بل هو أيضًا المكان الأسمى الّذي فيه نستطيع الإصغاء والاستماع إلى لغة الله الّتي يتوجّه بها إلينا. "فحفظ الصّمت– يقول القدّيس منصور دي بول– ليس إلّا إصغاء لله وتوجّهًا نحوه بالابتعاد عن الذّات وكلّ ما يعكّر الذّهن وكلّ أحاديث البشر. فغاية الصّمت هي إذن أن نصمت لندع الله يتكلّم". هكذا نجدنا أمام دعوة واضحة لنحبّ الصّمت ونحقّقه في حياتنا لأنّ الله يتكلّم إلى قلب أولئك الّذين يصمتون لكي يسمعوه.

وصمت النّاسك يجعله في حالة تأهّب واستعداد لإتمام إصغاء لله مستنير، متنبّه، عميق، مشارك وغنيّ بالطّواعيّة الكاملة. "فلنسكت كلّ شيء، كتبت اليزابيت الثّالوث، لكي لا نسمع أحدًا غيره.... وليكن الصّمت مسكننا الوحيد على هذه الأرض لكي نصغي، في صمت ذواتنا، لذاك الّذي لديه أشياء كثيرة ليقولها لنا". هكذا يُتمّ النّاسك صمته بمحبّة، ليس لأنّه لا يملك وسيلة أخرى أفضل من الصّمت للعبور إلى اللّامتناهي بل لأنّ الصّمت يهديه وسائل مختلفة تساعده على العبور إلى ذاته البشريّة المتناهية. ذلك لأنّ العبور إلى الذّات يشكّل قاعدة انطلاق أساسيّة لعبور المتحرّر من ذاته الى اللّامتناهي.

إعتبار أخير  

إنّ هذا القدر اليسير من الضّوء الّذي سلّطناه على عالم يتفوّق كثيرًا باتّساعه على عالم الكلام واللّغات وأنواع التّعبير، لم يكشف منه بالطّبع إلّا الجزء القليل القليل، فيما يبقى لنا المجال الفسيح لسبر غور عالم الصّمت اللّامتناهي. وبظنّي أنّه كلّما ازددنا سبرًا لعمق الصّمت تأكّدنا بأنّ كلامنا يشبه الخمرة الّتي لا تطيب إلّا إذا عُتقت في جوّ الأقبية الصّامتة.

ويجب ألّا يكون هذا الصّمت العميق سوى منطلق لحياة نشيطة فعّالة حكيمة تجنّبنا خطر الكلمة البطّالة الّتي حذّرنا منها السّيّد المسيح بقوله: "إنّ كلّ كلمة باطلة يقولها النّاس يحاسبون علينا يوم الدّينونة" (متّى 12-35).

كلّ صيام وأنتم بألف خير!".