أوروبا
02 أيار 2023, 12:30

أين كانت المحطّة الأخيرة للبابا فرنسيس في المجر؟

تيلي لوميار/ نورسات
في آخر محطّة له في المجر، التقى البابا فرنسيس عصر الأحد عالم الجامعة وعالم الثّقافة في جامعة "Péter Pázmány" الكاثوليكيّة في بودابست حيث كان باستقباله رئيس الجامعة.

وبعد أن أصغى لشهادة حياة أستاذ وطالبة وجّه الأب الأقدس كلمة تمنّى فيها أن تكون الجامعة وكلّ جامعة مركزًا للشّموليّة والحرّيّة وورشة خصبة للإنسانيّة، فقال بحسب "فاتيكان نيوز":  

"إنّه آخر لقاء لزيارتي إلى المجر، وبقلب ممتنّ، يطيب لي أن أفكّر في مسار نهر الدّانوب، الّذي يربط هذا البلد بالعديد من البلدان الأخرى، ويوحد بالإضافة إلى الجغرافيا التّاريخ أيضًا. إنَّ الثّقافة بمعنى ما، تشبه نهرًا عظيمًا: يمرّ عبر مناطق مختلفة من الحياة والتّاريخ ويربطها ببعضها البعض، ويسمح للمرء بأن يُبحر في العالم ويعانق بلدانًا وأراض بعيدة، ويروي العقل، ويسقي الرّوح، وينمِّي المجمتع.

في رواية ذكرتها عدّة مرّات، سيّد العالم لروبرت بنسون، نلاحظ "أنّ التّعقيد الميكانيكيّ ليس مرادفًا للعظمة الحقيقيّة وأنّه في أفخم الأشكال الخارجيّة يختبئ الفخُّ بشكل بارع". في هذا الكتاب، بمعنى "نبويّ"، والّذي كتب منذ أكثر من قرن، نجد وصفًا لمستقبل تهيمن عليه التّكنولوجيا ويتمّ فيه توحيد كلّ شيء بشكل متطابق، باسم التّقدّم: فيتمّ التّبشير في كلّ مكان بـ د"إنسانيّة" جديدة تلغي الاختلافات وتعيد ضبط حياة الشّعوب وتلغي الأديان. أيديولوجيّات متعارضة تتلاقى في تجانس يستعمر بشكل إيديولوجيّ الإنسان الّذي، وإذ يدخل في اتّصال مع الآلات، يتضاءل أكثر فأكثر، فيما يصبح العيش المشترك حزينًا ومتخلخلاً. في هذا العالم المتقدّم والكئيب الّذي يصفه بنسون، حيث يبدو الجميع مخدّرًا، يُصبح من البديهيّ تهميش المرضى وتطبيق القتل الرّحيم، وكذلك إلغاء اللّغات والثّقافات الوطنيّة من أجل بلوغ سلام عالميّ، يتحوّل في الواقع إلى اضطهاد يقوم على فرض إجماع معيّن، يجعل بطل الرّواية يؤكّد أنّ "العالم يبدو تحت رحمة حيويّة مُختلّة تفسد وتشوّش كلّ شيء.

لقد أطلت هذا العرض ذات الألوان قاتمة لأنّه في هذا السّياق بالتّحديد يتألّق دور الثّقافة والجامعة بشكل أفضل. إنَّ الجامعة في الواقع، كما يشير الاسم نفسه، هي المكان الّذي يولد فيه الفكر وينمو وينضج منفتحًا وبشكل سمفونيّ. إنّه "المعبد" الّذي تُدعى فيه المعرفة لكي تتحرّر من الحدود الضّيّقة للاقتناء والتّملُّك لكي تصبح ثقافة، أيّ "تعزيز" للإنسان وعلاقاته التّأسيسيّة: مع الله، ومع المجتمع، مع التّاريخ ومع الخليقة. وفي هذا الصّدد يؤكّد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني: "على الثّقافة أن تهدف لكمال الشّخص البشريّ المتكامل، ولخير الجماعة والمجتمع البشريّ بأسره. لذلك من الأهمّيّة بمكان أن نعزّز العقل لكي تُنمّى قدرات الإعجاب والإلهام والتّأمُّل فيصبح قادرًا على أن يكوِّن حكمًا شخصيًّا ويعزّز الحسّ الدّينيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ.  

من وجهة النّظر هذه، لقد قدّرتُ كلماتكم كثيرًا. كلماتك يا حضرة المونسنيور رئيس الجامعة، عندما قلتَ إنّه "بمساعدة العلم نحن لا نريد فقط أن نفهم، وإنّما نريد أيضًا أن نفعل الشّيء الصّحيح، وهو بناء حضارة إنسانيّة ومتضامنة، وثقافة وبيئة مستدامتين. بالقلب المتواضع لا يمكننا أن نصعد جبل الرّبّ وحسب، وإنّما جبل العلم أيضًا". هذا صحيح: إنّ المثقّفين الكبار في الواقع هم متواضعون. من ناحية أخرى، ينكشف سرّ الحياة للّذين يعرفون كيف يدخلون في الأمور الصّغيرة. جميل في هذا الصّدد، ما قالته دوروتيا: "من خلال التّفاصيل الصّغيرة على الدّوام، ننغمس في تعقيد عمل الله". وبهذه الطّريقة، تمثّل الثّقافة حقًّا حماية الإنسانيّة. وتُدخِل في التّأمّل وتصوغ أشخاصًا ليسوا تحت رحمة نزعات اللّحظة، وإنّما متجذّرون في واقع الأشياء. إنَّ الّذي يحبّ الثّقافة، في الواقع، لا يشعر أبدًا أنّه قد وصل وأنَّ كلَّ شيء على ما يرام، لكنّه يحمل في داخله قلقًا سليمًا. فيبحث ويسأل ويخاطر ويكتشف؛ يعرف كيف يخرج من ضماناته لكي يغامر بتواضع في سرّ الحياة، الّتي تقترن بالقلق وليس بالعادة؛ وتنفتح على ثقافات أخرى وتشعر بالحاجة إلى مشاركة المعرفة. هذه هي روح الجامعة، وأشكركم لأنّكم تعيشونها بهذه الطّريقة.

إنَّ الثّقافة ترافقنا لكي نعرف أنفسنا. ويذكّرنا بذلك الفكر الكلاسيكيّ، الّذي لا يجب أن يغيب أبدًا. تتبادر إلى الذّهن الكلمات الشّهيرة لمَوْحَى دَلْفي: "اعرف نفسك". إنّها إحدى العبارتين التّوجيهيّتين الّتي أريد أن أتركها لكم في الختام. لكن ماذا تعني عبارة اعرف نفسك؟ إنّها تعني أن نعترف بمحدوديّتنا، وبالتّالي، أن نوقف ادّعاءنا بالاكتفاء الذّاتيّ. وهذا الأمر سيفيدنا، لأنّه من خلال اعترافنا بأنّنا مخلوقات نحن نصبح مبدعين، ونغوص في العالم بدلاً من أن نُسيطر عليه. وبينما يلاحق الفكر التّكنوقراطيّ تقدُّمًا لا يعترف بحدود، إلّا أنَّ الإنسان الحقيقيّ يتكوّن أيضًا من الهشاشة، وغالبًا ما يفهم في هذه الهشاشة بالتّحديد أنّه يعتمد على الله وأنّه مرتبط بالآخرين وبالخليقة. لذلك، فإنّ عبارة مَوْحَى دَلْفي تدعونا إلى معرفة تكتشف، انطلاقًا من تواضع المحدوديّة، إمكانيّاتها الرّائعة، الّتي تذهب أبعد إمكانيّات التّكنولوجيا. بعبارة أخرى، تتطلّب معرفة الذّات أن نجمع، في جدليّة فاضلة، هشاشة الإنسان وعظمته. من دهشة هذا التّباين تولد الثّقافة: الّتي لا تكتفي أبدًا بل هي على الدّوام في بحث، قلقة وجماعيّة، منضبطة في محدوديّتها ومنفتحة على المطلق. أتمنّى لكم أن تنمّوا اكتشاف الحقيقة الشّغوف هذا!  

العبارة الإرشاديّة الثّانية تشير بالضّبط إلى الحقيقة. وهي جملة يسوع المسيح الّذي قال: "الحقّ يحرّركم". شهدت المجر سلسلة من الأيديولوجيّات الّتي فرضت نفسها كحقائق، ولكنّها لم تكن تعطي الحرّيّة. وهذا الخطر لم يختف اليوم أيضًا: أفكّر في الانتقال من الشّيوعيّة إلى الاستهلاكيّة. إنَّ القاسم المشترك بين هذين "النّظامين" هو فكرة خاطئة عن الحرّيّة. حرّيّة الشّيوعيّة هي "حرّيّة" قسريّة، مقيّدة من الخارج، يقرّرها شخص آخر؛ أمّا حرّيّة الاستهلاكيّة فهي "حرّيّة" متحرّرة، ومُتَعيَّ، ومنغلقة على نفسها، تجعلنا عبيدًا للاستهلاك وللأشياء. ما أسهل أن ننتقل من القيود المفروضة على التّفكير، كما في الشّيوعيّة، إلى الاعتقاد بأنّه ليس هناك حدود، كما في الاستهلاك! من حرّيّة مقيّدة إلى حرّيّة بدون مكابح. لكنَّ يسوع يقدّم مخرجًا، ويقول إنّ الحقَّ هو الّذي يحرّر الإنسان من إدمانه وانغلاقه. إنَّ المفتاح للوصول إلى هذه الحقيقة هو معرفة لا تنفصل أبدًا عن الحبّ، معرفة علائقيّة متواضعة ومنفتحة، ملموسة وجماعيّة، شجاعة وبنّاءة. هذا ما دُعيَت الجامعات لكي تُعزّزه وما دُعي الإيمان لكي يغذِّيه. لذلك أتمنّى أن تكون هذه الجامعة وكلّ جامعة مركزًا للشّموليّة والحرّيّة، وورشة خصبة للإنسانيّة، ومختبرًا للرجّاء. أبارككم من كلِّ قلبي وأشكركم على كلّ ما تقومون به."