دينيّة
28 كانون الثاني 2021, 08:00

أفرام السّريانيّ "ملفان الكنيسة"

ريتا كرم
رجل بارّ، من الجيل الرّابع ميلاديّ، عزف سمفونيّة النّسك والإيمان في مسيرة جاهد فيها لأجل الله وحده، فبات "قيثارة الرّوح القدس" المنبثقة من عذوبة الكنيسة السّريانيّة، في بلاد ما بين النّهرين. واليوم في ذكرى انتقاله إلى حضن الآب، نغرف من سيرته لنغني مسيرتنا.

 

وُلد مار أفرام في طريق الحقّ وأدرك عظمته بالتّجربة. فحمل نير المسيح منذ حداثته حتّى شيخوخته، واعتكف على العمل مسروراً كلّ يوم من دون انقطاع حتّى النّهاية. إنّه مثال عن رجال الله القدّيسين: لم يأكل سوى خبز الشّعير والبقول المجفّفة، ولم يشرب سوى الماء، حتّى حاكى هيكلاً عظميّاً بل تمثالاً من الفخّار، أمّا لباسه فكان ثوباً بالياً، نبذ القشور المادّيّة ووضع نصب عينيه وليمة الملكوت.

تتلمذ نبيّ السّريان على يدي مار يعقوب أسقف نصيبين الّذي منحه سرّ العماد في الثّامنة عشرة من عمره. فأحبّه كثيرًا واتّخذه تلميذاً وكاتباً في آن واحد ورسمه شمّاسًا وألبسه الثّوب الرّهبانيّ، ولكنّه لم يرتق إلى درجة الكهنوت، لاعتباره غير أهل لها رغم سموّ قداسته. حاز الشّمّاس على ثقة الأسقف فاصطحبه إلى مجمع نيقيّة، وعلى أثر عودتهما أسّس مار يعقوب مدرسة أوكل زمام التّعليم فيها إلى أفرام الّذي تسلّم إدارتها لاحقاً بعد موت مؤسّسها. فاعتمدت المدرسة اللّغة السّريانيّة لغة رسميّة وخرّجت علماء نوابغ بفضل عملاق الأدب السّريانيّ الّذي أظهر، خلال مسيرته، نقاوة الإيمان المستقيم وتقويّة العبادة، لاسيّما في كتاباته الّتي طغى عليها أسلوب عذب يترافق مع حبّ متأجّج كلّل أناشيده الرّوحيّة وكتاباته الشّعريّة والنّثريّة وتفسيره للكتاب المقدّس بعهديه، كتابات أغنى بها مكتبة الكنيسة تمتاز ببساطة وسلاسة في الأسلوب، ووضوح ومباشرة في المعنى، وصفاء واتّزان في اللّغة، وتبرز حزمًا في العقيدة والتّعاليم الكنسيّة، وحكمة في الكلام وأصالة في الرّأي ومنطقاَ في البرهان بعيداً عن المناظرات. فأضحى كالينبوع الفيّاض الّذي روت مياهه أرض الإيمان، والخمرة المعتّقة الّتي أخذت صفاتها من دماء الجلجلة، ليتقدّم الأدباء الآراميّين ويصبح تاج الأمّة الآراميّة السّريانيّة ومنارة الكنيسة الكاثوليكيّة، وقطب دائرة الشّعراء.

لم يكن أفرام السّريانيّ رجل تأمّل وصلاة فحسب بل رجل خدمة وعمل أيضًا، فمعلّم العلماء أرسى قاعدة متينة في التّعليم والتّدريس في مدرسة نصيبين والرّها، أعطى المؤمنين دروسًا في الصّلاة وفي تأويل الكتاب المقدّس، أولى الفقراء والمرضى اهتمامًا فائقًا، عزّى الحزانى، أرشد الشّبّان، هدى الضّالين، وكان على الهراطقة كسيف ذي حدّين، نظّم الحياة الطّقسيّة في الكنيسة السّريانيّة وألّف الجوقات الكنسيّة، حفظ التّراث القوميّ وجعل الأديرة مركزًا مهمًّا للعلم والمعرفة فازدهرت بفضله العلوم والآداب.

هذا هو أفرام السّريانيّ، فيه اجتمعت كلّ صفات القداسة حتّى بات "جوهرة نادرة المثال، غالية الأثمان... مستأثرًا بدرس الفضيلة والحكمة السّامية ليحوز القربى لدى الله"، ويُعلَن "ملفان الكنيسة الجامعة".