أعمدة الاستشهاد الثلاثة بتحديد الكنيسة
كانت كلمة يسوع في إنجيل يوحنّا: "ليس لأحد محبّة أعظم من هذا، أن يبذل نفسه من أجل أصدقائه" (يو 15، 13). ومن أجل إعلان قداسة شهيد، المعجزات ليست مطلوبة. الاستشهاد يكفي. بذل الحياة هذا لأصدقاء المرء هو كلمة تزرع دائمًا الراحة والرجاء. في الواقع، في مساء العشاء الأخير، تحدّث الربّ عن عطيّة الذات التي ستكتمل على الصليب. وحدها المحبّة يمكنها أن تفهم الصليب: محبّة عظيمة لدرجة أنّها حملت كلّ خطيئة وغفرتها، ودخلت معاناتنا ومنحَتْنا القوّة لتحمّلها، وتدخل حتّى الموت لتتغلّب عليه وتخلّصنا. في صليب المسيح محبّة الله كلّها، هناك رحمته العظيمة.
أن تكون قدّيسًا لا يتطلّب فقط جهدًا بشريًّا أو التزامًا شخصيًّا بالتضحية والتخلّي. بادئ ذي بدء، يجب أن نسمح لأنفسنا بأن نتغيّر بقوّة محبّة الله، التي هي أعظم منّا وتجعلنا قادرين على المحبّة بما يتجاوز ما كنّا نظنّ أنّنا قادرون عليه. ليس من قبيل المصادفة أن يتحدّث المجمع الفاتيكاني الثانيّ، في ما يتعلّق بالدعوة العالميّة إلى القداسة، عن "ملء الحياة المسيحيّة" و "كمال المحبّة"، القادريْن على تعزيز "أسلوب حياة أكثر إنسانيّة ... في هذا المجتمع الأرضيّ" (الدستور العقائدي نور الأمم، 40). هذا المنظور ينير أيضًا عملكم من أجل دعاوى القدّيسين، وعملكم خدمة ثمينة يقدّمها للكنيسة، حتّى لا تنقص أبدًا علامة القداسة الحيّة.
لقد تأمّلتم في خلال المؤتمر في شكليْن من القداسة: الاستشهاد وشكل تقدمة الحياة. منذ القدم، قدّر المؤمنون بيسوع تقديرًا كبيرًا أولئك الذين دفعوا شخصيًّا، بحياتهم، ثمن محبّتهم للمسيح والكنيسة. جعلوا قبورهم أماكن تكريمٍ وصلاة. لقد اجتمعوا معًا، في يوم ولادتهم في السماء، لتوطيد روابط الأخوّة التي تتجاوز، في المسيح القائم من بين الأموات، حدودَ الموت، مهما كانت قاسية ومؤلمة.
نجد في الشهيد ملامح التلميذ الكامل، الذي اقتدى بالمسيح في التخلّي عن نفسه وحمْل صليبه، وأظهر للجميع، بمحبّته، قوّة صليبه الخلاصيّة. أتذكّر استشهاد هؤلاء الأقباط الأرثوذكس الطيّبين: لقد ماتوا وهم يقولون "يسوع"... إنّهم شهداء، والكنيسة تكرّمهم كشهداء لها. ويحدث الشيء عينه في أوغندا، مع الشهداء الأنغليكان. بالنسبة إلى الكنيسة، هم جميعًا شهداء!
في سياق دعاوى القدّيسين، حدّد الشعور المشترك للكنيسة ثلاثة عناصر أساسيّة للاستشهاد، والتي تبقى دائمًا صالحة. أوّلًا، الشهيدُ هو مسيحيٌّ – يعاني، بوعي، من موتٍ عنيفٍ وسابق لأوانه، حتّى لا ينكر إيمانه. حتّى المسيحيّ غير المعمّد، الذي هو مسيحيّ في القلب، ويعترف بيسوع المسيح في معموديّة الدم؛
ثانيًا، أنّ القتلَ يرتكبه مضطهِدٌ تحرّكه كراهيةٌ للعقيدة أو لفضيلة أخرى مرتبطة بها؛
ثالثًا، تتّخذ الضحيّة موقفًا غير متوقّع من المحبّة والصبر والوداعة، اقتداءً بيسوع المصلوب.
ما يختلف، في مختلف العصور، ليس مفهوم الشهادة، بل الطرق الملموسة التي تحدث بها، في سياقٍ تاريخيّ محدّد.
حتّى اليوم، في أجزاء كثيرة من العالم، هناك العديد من الشهداء الذين يضحّون بحياتهم من أجل المسيح. في حالاتٍ كثيرة، تُضطهد المسيحيّة لأنّها، مدفوعةً بالإيمان بالله، تدافع عن العدالة والحقيقة والسلام وكرامة الشخص. هذا يعني، بالنسبة إلى أولئك الذين يدرسون أحداث الاستشهاد المختلفة، أن- كما علّم المكرّم بيوس الثاني عشر، "في بعض الأحيان ينتج اليقين الأخلاقيّ فقط عن كميّة من القرائن والبراهين التي، إذا أُخذت بشكل فرديّ، لا تستحقّ تأسيس يقين حقيقيّ" - انسجام المعرفة - "وفقط عندما تؤخذ معًا لا تترك أي شكّ معقول في ذهن رجل يتمتّع بحكم سليم" (كلمة إلى الروتا الرومانيّة،1 تشرين الأوّل/أكتوبر 1942).
في مرسوم الدعوة إلى اليوبيل المقبل، حدّدتُ شهادة الشهداء على أنّها برهان الرجاء الأكثر إقناعًا. لهذا السبب، أردت في دائرة دعاوى القدّيسين أن أؤسّس لجنة الشهداء الجدد - شهود الإيمان، التي، باختلاف معالجة أسباب الاستشهاد - تجمع ذكرى أولئك الذين، حتّى داخل الطوائف المسيحيّة الأخرى، استطاعوا أن يتخلّوا عن حياتهم حتّى لا يخونوا الربّ. وكثيرون كثيرون، من الطوائف الأخرى، هم شهداء.
إن خبرة دعاوى القدّيسين والمواجهة المستمرّة مع الخبرة الملموسة للمؤمنين دفعتني، في 11 تمّوز/يوليو 2017 إلى التوقيع على الوصيّة الرسوليّة "Maiorem hac dilectionem"، التي قصدتُ من خلالها التعبير عن الحسّ السليم لشعب الله الأمين في ما يتعلّق بشهادة قداسة أولئك الذين، بوحي من محبّة المسيح، قدّموا حياتهم طواعية، قابلين موتٍ محتّمٍ ووشيك. وبما أن الأمر تعلّق بتحديد مسار جديد لدعاوى التطويب والتقديس، فقد أثبتْتُ أنْ يجب أن تكون هناك صلة بين تقدمة الحياة والموت المبكر، وأنّ خادم الله مارس الفضائل المسيحية على الأقل إلى درجة عاديّة، وأنّه أُحيط بصيت القداسة وعلاماتها خصوصًا بعد وفاته.
ما يميّز تقديم الحياة، الذي تغيب عنه شخصيّة المضطهِد، هو وجودُ حالة خارجيّة قابلة للتقييم الموضوعيّ وَضع فيها تلميذ المسيح نفسَه بحرّيّة وتؤدي إلى الموت. حتّى في الشهادة الاستثنائيّة لهذا النوع من القداسة، يبرز جمال الحياة المسيحيّة، القادرة على أن تجعل من نفسها عطيّة بلا قياس، مثل يسوع على الصليب.
أيّها الإخوة والأخوات الأعّزاء، أشكركم، وأشجّعكم على القيام بعملكم من أجل دعاوى القدّيسين بشغف وسخاء. أوكلكم إلى شفاعة العذراء مريم وشهود المسيح جميعهم، الذين ترِد أسماؤهم في سفر الحياة. أبارككم من قلبي، وأطلب منكم أن تصلّوا من أجلي. شكرًا.