لبنان
24 حزيران 2018, 09:30

أبو جودة : أين نحن اليوم من حياة التّوبة الدّائمة التي تقودنا إلى لقاء المسيح في حياتنا اليوميّة وإلى التّجدد داخليًّا؟

شارك رئيس الجمهورية العماد ميشال عون واللبنانيّة الأوّلى السيّدة ناديا الشامي عون الرهبانيّة الأنطونيّة ورهبان دير مار يوحنا المعمدان القلعة في بيت مري، القداس الاحتفاليّ الّذي أقيم في مناسبة عيد مار يوحنا المعمدان ومرور 250 عامًا على بناء كنيسة الدير الأثريّة في بيت مري، بالتزامن مع الاحتفال بأوّل قداس في هذه الكنيسة بعد أحداث 13 تشرين الأول 1990


 

احتفل بالقداس الرئيس العامّ للرهبانيّة الأباتي مارون أبو جوده وعاونه رئيس الدير المدبّر الأبّ مارون بو رحال، ألامين العامّ للمدارس الكاثوليكيّة الأبّ بطرس عازار، وتولى الخدمة جوقة المدرسة الأنطونيّة في القليعة، الجنوب، بإدارة الأب يوسف باسيل.


وبحسب الوكالة الوطنيّة، قبل بدء القداس الإلهيّ، ألقى رئيس الدّير المدبّر بو رحال كلمة رحب فيها بالرئيس عون واللبنانيّة الاوّلى والحضور، مبرزًا محطات أساسيّة من تاريخ الدّير ومعاناته، وبخاصة خلال أحداث 1990 وما بعدها. ومما جاء فيها: "أرحبّ بكم في هذا الدّير المبارك، دير مار يوحنا - القلعة الّذي يشع منه حضور الله ورائحة القدّاسة منذ تاريخ تأسيسه سنة 1748 أي منذ270 سنة، والذي ما زال امينًا على تراكم التاريخ وهو الشاهد على العنفوان الوطنيّ، من أجل الحفاظ على كرامة لبنان وحريته. لقد دافعتم، يا فخامة الرئيس، عن هذه الركائز والقيم: حرّيّة المعتقد والإيمان بالله، الأمانة لتّاريخ الوطن وحرّيّة الشّعب اللبنانيّ وكرامته، وعانيتم الكثير من أجل الحفاظ على هذه الأسس. لن ننسى كلّ الذين قدّموا حياتهم فدية، على أرض هذا الدّير، للدّفاع عن هذه المبادئ. وهنا لا بد من أن أذكر أخوينا الأبوين المغيبين ألبير شرفان وسليمان أبي خليل مع مدنيين وجنود في الجيش اللبناني. كل هذه الوجوه ما زالت مضيئة في وجداننا وضمائرنا. فلا عجب أن يختلط مصير الرهبان مع مصير جنود جيشنا ومصير شعبنا في المحطات المصيريّة التي تشكل تاريخ لبنان. إنه مصير واحد نفتخر به ونعمل للحفاظ عليه. فخامة الرئيس، لم ترتفع صلاتنا في هذه الكنيسة منذ ذلك التاريخ 13 تشرين الأول 1990، غياب قسريّ طالت مدّته ثمانية وعشرين عامًا، إلى أن حلّت هذه السنة ذكرى 250 عاما على بنيان هذه الكنيسة الأثريّة. فأردناها عوّدة إلى النبع الذي شرب منه من سبقونا، أردناها عودة إلى المكان الذي صلّى وتقدس فيه أهل هذه المنطقة مع آبائنا ورهباننا الأنطونيّين. إنها عودة إلى الجذور كي نحيا بها اليوم وغدًا، كي نعيش الحاضر بكل فخر ونحضر للمستقبل بكل إقدام. إنها الذبيحة الإلهيّة الإحتفاليّة الأولى الّتي نقيمها اليوم، بعد مرور هذه الأعوام على هجر هذا الهيكل المّقدّس، من أجل كل من سبقونا، عرفانا بالجميل وحفاظًا على مجهودهم وتعبهم".

وبعد الإنجيل ألقى الأباتي أبو جوده عظة في المناسبة ومما جاء فيها: "أرحبّ بكم فخامة الرئيس، في ديرنا مار يوحنا المعمدان القلعة، عشية عيده، لما لهذا الدّير الأنطوني من تاريخ مشرف في الدّفاع عن الوطن، فلقد دفع فاتورة الانتماء للوطن مرّات متّعددة وآخرها في العام 1990، (يوم تغييب أبوينا ألبير شرفان وسليمان بو خليل، فصل لا يمكننا إقفاله بسهولة). وفي كل مرة كنا نحييه مجددًا ونبث فيه روح القيامة والثقة بالدورالّذي يجب علينا أن نعيشه نحن الرهبان، بأنّ نكون مراكز إشعاع وصلة تواصل مع جميع اللبنانيين. أرحبّ بكم وأنتم علم نضال ومثابرة في تاريخ هذا الوطن، تعملون على إعلاء شأنه وقيادته إلى سفينة بر الخلاص. فخامة الرئيس، إنّ الوطن الرسالة ليس معطى تاريخيًا كجبالنا وأرزنا، إنما هو مسيرة تلاق وتعاون وحوار، تحتاج إلى من يؤمن بها ويبثها في قلوب اللبنانيين، خصوصًا وإن الإنتماءات الخارجيّة التي تسحر بعضهم، إلى جانب أفكار غريبة عن مجتمعنا نستوردها معتقدين أن فيها الخلاص، لا تتماهى مع طبيعة لبنان، وتركيبته، وتاريخه، وفكره وعلمه وانفتاحه. لذا فالعمل على تبني الوطن الرسالة هو الذي يعطي لبنان نكهته المميزة، كما يعطيه الأرز نكهة الخلود ورائحة السماء. 
"صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب". هكذا عرف يوحنا عن ذاته عندما سئل من أنت؟ الصّوت المنادي لتهيئة النفوس لاستقبال يسوع المسيح. هو الصّوت الذي سيحمل الكلمة إلى العالم، فيدخل صوته في آذانهم ليدخل يسوع إلى قلوبهم. وما أشرف هذه المهمّة وما أقدسها. يرفع صوته منبها لأكبر حدث في تاريخ العلاقة بين الله والإنسان، يرفعه ليدعو الناس إلى التّوبة وتحضير الذات للدخول إلى الملكوت الذي سيعلنه الرب يسوع، ويرفعه مرّة أخرى ليظهر الحقّ ويبكت على الشرّ، ويصوّب طريق الأشرار مهما علا شأنهم. فإذا به سراج لا ينطفىء، وصوت لا يسكت.

فخامة الرئيس، لقد صوّر بعض اللاهوتيين وكاتبي الأيقونات يوحنا، كأنه "أصبع ممدودة" نحو يسوع المسيح ليقول فيه: "هذا هو حمل الله الحامل خطايا العالم". وقد تحققت نبوءته في يسوع "حمل الله" الذي حمل خطايا العالم وارتفع بها على الصليب، وصار علّة خلاص للعالم. وفي ضوء إصبع الحق، تلفتني تلك الأصابع الممدودة في الوطن التي تعمل على تبادل الاتّهامات، بدلاً من أن تدلنا على طريق الخلاص، فإذا بنا نراوح مكاننا ونتهم غيرنا، وكلنا مرتاح البال، معتقدين أن المسؤولية عند الآخرين، وهم منها براء. في حين يهز هذا القديس ضمائرنا إذ يدعونا لأن نتبع من يقودنا في طريق الخلاص. كم نتمنى، فخامة الرئيس أن تنكفئ تلك الأصابع الممتدة نحو بعضها كأنها سلاح موجه، وأن يضع كلّ منا ما عنده من إيجابيّة لنسير نحو الخلاص، لأننا نحتاجه جميعًا. فلا يمكننا في هذا الوضع الحرج، سوى أن نشبك أيدينا، ليس في حفل كباش، بل لنسير سويًا لمّا فيه خير المواطن والبلد. يوحنا المعمدان، كان أوّل من فرح بلقاء يسوع وهما في الحشا "ارتكض الجنين في أحشاءأمه" عند لقائها للعذراء مريم (لو 1/14 - 54) فعاش حياته في قسّمها الدّاخليّ مرتكزًا على التقشف والإماتات، وحياة التّجرد والفقر، أمّا حياته الرسوليّة، فكانت متمحورة حول تحضير النفوس ودعوتها إلى التّوبة لقبول كلمة الله. أليست هذه صفات كل إنسان يعيش في العالم وفي خدمة الشأن العام؟ فمن جهة عليه أن يعيش صلابة داخليّة مع ذاته مبنية على التّقشف والتّجرّد، ومن جهة أخرى يجب أن يحمل هم المواطنين للسيّر بهم إلى المراعي الخصيبة. وما أجمل النداء الذي جسده يوحنا المعمدان: "أيها الخطأة توبوا، وعيشوا وأعطوا ثمارا تستحق الغفران". وكم نطمح عندما نسمع أصوّات سياسيينا يحذرون أن يكونوا أوّل من يأخذ على عاتقه ما ينبه منه. وإذا أردنا اختصار صفات يوحنا، يمكننا أن نقول عنه ثلاثة أمور:
الرّجل التّائب والدّاعي إلى التّوبة، الذي عاش حياته بتجرد، وقرب الناس من الله، الرّجل الشجاع الذي واجه الكبار من دون خوف أو تردد، ليشهد للحق. الرّجل المُعمّد الذي غسل الخطايا بالماء تحضيرًا للولادة الثّانيّة بالرّوح القدّس والنار. أين نحن اليوم من حياة التّوبة الدائمة التي تقودنا إلى لقاء المسيح في حياتنا اليوميّة وإلى التّجدد داخليًا؟ تنقصنا الجرأة في بناء نفوسنا على عمل الصلاح والبر، على أعمال التّقوى والإماتات، لكي لا تبعد أمور العالم نظرنا عن شمس الحق، عندئذ نصبح شهودًا للحقّ على مثال يوحنا. وفي هذا المجال، أود أن ألفت إلى أننا في حياتنا الروحيّة، في الكنيسة، عند إبراز النذور أو قبول سرّ الكهنوت، أو قبل الإقدام على مشروع هام، أوّل ما يقوم به المؤمن هو رياضة روحيّة، ليكشح الغبار المتّراكم في حياته، ويستضيء بنور المسيح للمرحلة المقبلة، وبعد الانتخابات، أريد أن أدعو، معكم، الذين حصلوا على ثقة الناس ودخلوا قبة المجلس، أن يعود كل واحد إلى ذاته، ويقوم بفحص ضمير، لكي يتّجدد بالتّجرد، ويتلمس حاجة المواطنين، ليقوم على خدمتهم كما وعدهم، وكما يفْرضه واجب التّقدّم إلى الخدمة العامّة. وفي مواجهتنا عالم الشر، المملوء تكفيرًا، وبهتانًا، وهو مغلف بتجربة الكبرياء، وإنكار وجود الله، يقوم كلّ واحد مؤمن بالله، وقد نال الرّوح القدس، يقوم بشجاعة لمواجهة الضياع والإغراءات بقلبّ مليء من محبّة المسيح، ومن محبة الله، فلا يمكن أن نكون، ونحن ندعي الإيمان، مسلمين ومسيحيين، شهود زور على محبّة الله لنا، بل علينا العمل على تحقيق غايات إيماننا وتجسيد فضائله وتفعيلها في حياتنا اليوميّة؛ كما أن التقرب من العلي لا يتم بالعزل أو الانعزال، ولا بالتهميش والاستقواء، بل بالانفتاح على الخلق أجمعين، والتحاور والتخاطب والسعي إلى خلاص صورة الله تعالى وصون كرامة خلائقه وحريتهم. فلنضع أيدينا بأيدي بعض، ولنتكاتف معا في مواجهة ما يشوه حضارتنا الإنسانية والدينية، ولنشهد معا لقيمنا المشتركة من محبة وأخوة ومودة وصداقة. 

فخامة الرئيس، أخواتي وإخوتي الأحباء، يوحنا المعمدان كان "صوتًا صارخًا في البريّة" هذه المهمّة الخاصّة التي أعطاه إياها الرب منذ الحبل به، عاشها بالملء على الرّغم من كلفتها العاليّة، لأنه مات شهيدًا من أجل أن يكون لها أمينا. ولقد تمّرس عليها في البرية، المكان البعيد عن الإغراءات، وفي البرّية أيضًّا وهي محطة إيمانيّة كبيرة في تاريخ الحياة الرهبانيّة، حيث عاش أنطونيوس أبو الرهبان، ومارون، وطغمات المكرسين، في البرية بعيدًا من الإغراءات، فنبني نحن الرهبان حياتنا، ونتأمل بعظمة الله، لكي ننطلق في ما بعد للعمل من أجل الإنسان والوطن. كلنا يحتاج إلى هذه الفسحة الإلهيّة لينقي ذاته، فيقوم بخدمته على أفضل حال، لأنها مكان صلاة وعودة إلى الذات، وإنها ملجأ نعمة نختمر فيها، لنخرج منها ونعكس نعمة الله على أبنائه. فلنتكل على الله ولنحمل راية المسيح على غرار يوحنا المعمدان فنصبح بدورنا "صوت صارخ" في عالم اليوم، نعلن اسم يسوع ونعيش بحسب تعاليمه. ولا بد لي في هذه المناسبة، عيد ديرنا الأنطوني مار يوحنا القلعة وشفيعه، إلا أن أتمنى لرئيس الدير، أخينا المدبر الأب مارون بو رحال ولجمهور الدير، وللمصلين الذين يقصدونه للخلوة الروحية والصلاة واللقاء بالله، وقد يسروا لنا لقاءكم يا فخامة الرئيس، ولكل من يتكنى باسم يوحنا أو يسعى ليصيب سعيه المستقيم، أتمنى لهم جميعًا عيدًا مباركًا تحل فيه خيرات الرب يسوع علينا جميعًا لنكون على مثال شفيعنا يوحنا المعمّد "صوّت صارخ" في الحق، يحمل الجميع للقاء وجه الله المشع نورًا. ويسرني، فخامة الرئيس، أن أتمنى لكم التوفيق في إدارة البلاد، وقد أعطيتم أكثر من مثل على تقديم خير الأمة على خيركم الشخصيّ، واعتليتم على الصغائر، لإرساء رؤية واسعة للبنان، ونطمح لأن نرى الجميع يقومون بالخطوة ذاتها، من أجل صالح الوطن وأبنائه. وأتمنى لوطننا أيام سلام وخير وبحبوحة، وليباركنا الثالوث الأقدس، بشفاعة يوحنا المعمدان،الآب والابن والروح القدس له المجد إلى الأبد".