"الكنيسة بحاجة إلى استراتيجيّة جديدة لربط القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة بالإيمان": البطريرك ساكو
فانك أنتَ أيُّها السيّد رجائي، وأنتَ أيُّها الربّ مُعتمدي منذ صباي" (مزمور 71/5). تعبّر هذه الآية بقوّة عن الشعار الذي اختاره البابا فرنسيس، ليوبيل السنة المقدّسة عام 2025 "حُجَّاج الرجاء" الوشيك.
يمثّل الرجاء تفسيرًا عميقًا لليوبيل. الرجاء لا يأتي من الخارج، بل من الربّ، ويحمل لنا العزاء. الرجاء يدفع كلَّ شيء إلى الأمام، لذلك علينا أن نُبقِيَ شعلته مضاءة في داخلنا، ونحمل نوره في ظلام عالمٍ منقسمٍ وجريح.
لا ينبغي أن نخلط بين الأمل الذي هو شعور عاطفي متفائل بنتائج إيجابيّة أمام صعوبات الحياة، وبين الرجاء الذي هو فضيلة لاهوتيّة كبرى، وموقفٌ إيمانيّ للعيش بثقة وثبات.
السؤال الأساسيّ المطروح في سنة اليوبيل هو: كيف نُوطّد الرجاء عند الناس؟ وكيف ننقله إلى عالم يبدو أنّه انسحب منه؟
المصالحة هي في قلب اليوبيل
اليوبيل تقليدٌ عريق، ذو قيمة روحيّة عالية. عاشته الكنيسة الكاثوليكيّة عبر تاريخها الطويل، ليغدو زمنًا مقدّسًا للمؤمنين. اليوبيل زمن إيمانيّ وروحيّ، تعود جذوره إلى الكتاب المقدّس، يهدف إلى تنقية الذات وإعادة العلاقة مع الله ومع الآخرين الذين نعيش معهم ومع الخليقة. هذا ما دعت إليه رسالة البابا "كلّنا أخوة" Fratelli tutti، وأن نكون مسؤولين عن بيتنا المشترك "كُنْ مُسَبَّحًا"Laudato si. تشير كلمة يوبيل Jubileo إلى الاحتفال بفرح المصالحة والمغفرة التي ننالها من الله ومن الآخرين.
لا يتحقّق هذا التغيير من دون ترسيخ ثقتنا بالله وطاعتنا له، من خلال الصلاة والإصغاء إلى الروح القدس الذي يرشدنا في وقت الخطيئة والأزمات والتعب كما شدّد سينودس السينوداليّة في تشرين الأوّل/أكتوبر 2024.
ونحن الرعاة مدعوّون، بالدرجة الأولى، إلى مراجعة ذاتنا وأمانتنا للرسالة الموكولة إلينا كشهود نصغي إلى الروح القدس، لنوجّه شعبنا إلى ما يريده الله. نحن رعاة لحمل فرح الإنجيل ومحبّة الله ورحمته وغفرانه، ولسنا رعاةً لإدارة شؤون الكنيسة كرجال أعمال!
وأدعو المؤمنين إلى قراءة معمّقة للرسالة العامّة "لقد أحبّنا" Dilexit nos للبابا فرنسيس لقيمة روحيّة لهذا اليوبيل. إنّها تساعد على التأمّل في موضوع اليوبيل والتحلّي بالرجاء الذي يقودنا في "حَجٍّ روحيٍّ داخليّ، وتقاسم محبّة الله لنا، مع الآخرين. هذه المحبّة التي تحرّرنا من تضخيم الذات، والأنانيّة والفساد وروح الانتقام.
المصالحة الشجاعة هي الخطوة الأولى لليوبيل
اليوبيل فرصة لنبدأ مرحلة جديدة يسمّيها الإنجيل التوبة، لكي نتخلّص من الماضي المؤلم ونبدأ بالأفضل لنعيش بسلام وفرح وبهجة.
الخطوة الأولى التي نبدأ بها لنوقظ حقيقتنا، هي المصالحة والتغيير عبر فحص الضمير: الأحداث والحقيقة الذاتيّة، والعلاقات في مجتمع مشوّش.
يشمل التغيير الكبير طريقة عيش الإيمان وعيش العلاقات على المستويات كافّة في المجتمع والكنيسة، مع إيلاء اهتمام خاصّ لتغيير السلوك.
تكمن المصالحة في معالجة الخصومة وروح الانتقام من خلال الاعتراف الصريح بالخطأ، وبالندم الداخليّ العميق على ما ارتكبنا من خطأ، والشجاعة في طلب الغفران، والسعي إلى تغيير السلوك لنعيش بسلام ووئام. ومثلما يفتح الله باب الرحمة والنعمة والمغفرة لمن يتوبون حقًّا، علينا نحن أيضًا أن نغفر لمن أساء إلينا، ونطلب المغفرة ممّن أسأنا اليهم. أليس إلى هذه التوبة يشير فتح باب الكنائس الكبرى رسميًّا في بداية اليوبيل؟
الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة هي خطوات لا غنى عنها لشفاء الذكريات الجريحة. هذا ما علَّمهُ يسوع المسيح في صلاة الأبناء: "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا لمن أخطأ إلينا" (متّى 6: 12). "إن لم تغفروا للناس زلّاتهم، فلن يغفر لكم أبوكم زلّاتكم" (متّى 6: 15).
بفضل هذه الرحمة التي ننال من الله والتي نقبل، نستطيع أن نغفر للآخرين إساءاتهم إلينا، وأن نحوّل "المغفرة والمصالحة" إلى الفرح.
اليوبيل مناسبة فريدة لمدّ اليد نحو الآخر، باتّجاه المراجعة الثنائيّة، والمكاشفة الأخويّة بإلهام الروح القدس. ذلك أنّ شجاعة المصالحة المتبادلة، وما يترشّح عنها من فرح، لا تقارن بما تتمخّص عنه المخاصمات والاصطفافات غير المسيحيّة.
للكنيسة رسالة تربويّة وتعليميّة أكّدها سينودس السينوداليّة. الكنيسة السينوداليّة- المجمعيّة، كنيسة حيّة ولها رسالة. وهنا أفكّر في أهمّيّة التنشئة المسيحيّة بحسب التوجّهات التي اقترحتها وثائق التعليم المسيحيّ منذ عقود، والتي بحسب اعتقادي، لم نستفد منها نحن الشرقيّين! ذلك أنّ التنشئة الصحيحة تصبح تحوّلًا – تكوينًا. هنا أذكر مسألة مراجعة دور اللغة والمصطلحات والأسلوب في نقل الإيمان، والتواصل مع حاجات المؤمنين وتطلّعاتهم، وضرورة تدريب الوعّاظ وملقّني "التعليم المسيحيّ" المستدام.
اليوبيل ومآسي البشر فرصة لإنسانيّة أكثر صدقًا
كيف يُمكننا أن نغذّي الأمل بالسلام في وجه أهالي مَن فقدوا حياتهم في الصراعات والحروب والإرهاب، أو الاشخاص الذين فقدوا بيوتهم وأملاكهم وأشغالهم ويعيشون في المخيّمات يهيمن عليهم الخوف والفقر والحاجة الى كلّ شيء؟
المستقبل لعالم أفضل يحتاج إلى التخلّي عن صناعة الأسلحة المتطوّرة والفتّاكة، والتركيز على إزالة أسباب الصراعات المدمّرة ومآسي الظلم والجشع والفساد واللامبالاة وخلق توازنات وانسجام مستقرّ وأمان بين الشعوب والدول.
كمؤمنين مسيحيّين ومسلمين ويهود، علينا أن ندرك أنّ الله هو للجميع ويريد الخير للجميع. وما يحصل في عالمنا من ظلم يتعارض تمامًا مع إرادة الله، الذي خلق الإنسان ويحبّه وأوجد الكون "الذي رآه جميلًا" (تكوين 1/12) ويديمه.
على الكنيسة (والمرجعيّات الدينيّة الأخرى) التزامٌ كبير في رفع صوتها النبويّ عاليًا لدعم ملموس للحلول الفعّالة، في تغيير طريقة عيش العلاقات الأخويّة، في السلام والاستقرار والمساواة، بحرّيّة وكرامة واحترام.
هذا التعامل مع القضايا الراهنة يُؤسَسُ على إعلان المسيح برنامجه اليوبيليّ في مجمع الناصرة، معتمدًا على نصّ النبيّ أشعيا (61/1-2): "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء، وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم، ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم، وأُفَرِّجَ عنِ المَظلومين، وأُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرَّبّ" (لوقا 4/18-19).
أجل الكنيسة بحاجة إلى استراتيجيّة جديدة لربط هذه القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة بالإيمان. وبإمكان الكنيسة الاستفادة من ذوي الإرادة الطيّبة، وهم كثر من الراغبين بفعل شيء ما من أجل السلام والاستقرار. قال البابا فرنسيس: "أتمنّى أن يكون اليوبيل فرصة لوقف إطلاق النار في النزاعات الدائرة كلّها" (في تقديمه لكتاب بعنوان يوبيل الرجاء). هذا هو الرجاء.