دينيّة
23 أيار 2011, 21:00

نداء إلى المسيحيين اللبنانيين والعرب، من أجل عالم عربي ديمقراطي وتعددي

(Abouna) طالب مجموعة من المفكرين والناشطين السياسيين في نداء تحت عنوان \"نداء إلى المسيحيين اللبنانيين والعرب، من أجل عالم عربي ديمقراطي وتعددي\"، التحرك بمساحة تتجاوز لبنان إلى مسيحيي العالم العربي.

ويقدم نص "النداء" قراءة للمتغيرات التي عصفت بلبنان والعالم العربي أخيراً، والدور الذي ينبغي للمسيحيين النهوض به في ضوء مساهماتهم في النهضة العربية الفكرية والثقافية والسياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر، والقيم التي تملي عليهم مساندة المناضلين العرب من أجل الحرية والديمقراطية. ويرمي هذا النداء إلى إطلاق حوار بين المسيحيين في لبنان والعالم العربي حول الخيارات الجديرة بهم في هذه المرحلة من التحوُّل التاريخي في المنطقة. ويرى ان عملية التحوّل الديمقراطي الجارية على قدم وساق في منطقتنا العربية تشكل خبراً سعيداً للبنان.

وجاء في النداء "فقد ظل وطننا، على مدى أكثر من نصف قرن، موضوعاً لمحاولات حثيثة رمت، بدعوى تعريب نظامه وعقيدته الوطنية، إلى جعله شبيهاً بالأنظمة المحيطة. أما اليوم، فها هي المنطقةُ العربية -في سعيها المصمّم للتخلُّص من عبوديات القرن الماضي والتهميش التاريخي- تنحاز بوعي إلى معنى لبنان، بما يحمل هذا المعنى من قيم الحرية والديموقراطية والتعددية والانفتاح على العالم".

ودعا البيان المسيحيين اللبنانيين إلى إعادة الوصل مع دورهم التاريخي التنويري في المنطقة العربية، وإلى مساهمة فعّالة في الاجابة عن السؤال الجوهري المطروح اليوم على العالم العربي: كيف نعيش معاً، متساوين في حقوقنا والواجبات، متنوعين في انتماءاتنا الدينية والثقافية والعرقية، ومتضامنين في سعينا نحو مستقبل أفضل لجميعنا، مسيحيين ومسلمين؟

لماذا يستطيع المسيحيون اللبنانيون تقديم مساهمة أصيلة وفعّالة في هذا المجال؟

بدايةً لأنهم لعبوا تاريخياً دوراً طليعياً في إرساء المداميك الأساسية لمفهوم العيش المشترك. ذلك بمشاركتهم النشطة، منذ القرن التاسع عشر، في النهضة العربية الحديثة، وفي تعريف العروبة بوصفها رابطةً ثقافية متينة بين أبناء المنطقة. وفي هذا الاتجاه رفضوا عام 1920 فكرة "الوطن القومي المسيحي"، مطالبين بقيام "لبنان الكبير" الذي يضم إلى الجبل ذي الأغلبية المسيحية مناطق ذات أكثريات إسلامية. وأخيراً رفضوا عام 1943 بقاءَ الانتداب وناضلوا من اجل الاستقلال الناجز. ثم إنهم، وبعد الانقسام الأهلي الذي أحدثته حرب 1975-1990، كانوا في طليعة المبادرين إلى ترميم العيش المشترك الاسلامي المسيحي في لبنان. وذلك من خلال جهد استثنائي، في إطار سينودس الأساقفة (1995)، لمغادرة "ثقافة الحرب" وإعادة الاعتبار الى معنى لبنان ورسالته. وفي هذا الاتجاه أيضاً عملوا بتوجيهٍ من الإرشاد الرسولي (1997)، على مراجعة ذاتية من أجل "تنقية الذاكرة"، قبل أن ينخرطوا مع نداء المطارنة الموارنة (2000) في معركة تحرير لبنان من الوصاية، تلك المعركة التي أثمرت الاستقلال الثاني 2005.

ويشدد البيان بقوله "أخيراً فإن المسيحيين اللبنانيين جديرون بالمهمة المدعوّين اليها لأنهم رفضوا على الدوام أن يروا إلى أنفسهم اقليَّةً منشغلةً بهمّ الحفاظ على الوجود.. ولو بصورةٍ مُتحَفيّة. لقد اهتموا بـ(الحضور)، ورأوا إلى أنفسهم جماعةً فاعلةً متفاعلة، "مدعوَّة –كما أشار الإرشاد الرسولي– إلى التعاون مع الجماعات الأخرى لبناء مستقبل العيش معاً والشراكة الكاملة".

ولا ننسى أن كنائس الشرق، في توجيهاتها ومقرراتها، قد استبعدت دائماً تلك النظرة الأقلوية إلى الذات، مؤكِّدةً أن "المسيحيين في الشرق يشكلون جزءاً عضوياً من الهوية الثقافية للمسلمين، مثلما يشكل هؤلاء جزءاً عضوياً من الهوية الثقافية للمسيحيين"، وأنهم جميعاً، مسلمين ومسيحيين، "مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله وأمام التاريخ". ويعتقد الموقعون على البيان أن المهمة الأساسية لمسيحيّي لبنان والعالم العربي هي اليوم في العمل على إعلاء شأن ثقافة السلام والعيش معاً، بمواجهة ثقافة العنف والإقصاء التي ما زالت تُلقي بثقلها على إنسان هذه المنطقة من العالم.

وبذلك فإنهم سيساهمون في رفع التحدّي الكبير الذي عبّر عنه اللبناني المسيحي أمين معلوف بقوله "إما أن نعرف كيف نبني في هذا القرن حضارةً مشتركة يستطيع كلٌ منا الانتماء إليها بطيبة خاطر، وتشدُّ أواصرها قيمٌ عاليةٌ واحدة، ويَحدُوها إيمانٌ عميق بالتجربة الإنسانية، ويُثريها تنوُّعُنا الثقافي... وإما أن نغرق معاً وجميعاً في بربرية مشتركة لا قعرَ لها". ثقافةُ "العيش معاً" هذه إنما تتجسّد في "دولة العيش معاً". وهذه الدولة ينبغي أن تكون دولة مدنية، تقوم على التمييز الواضح، إلى حدّ الفصل، بين الدين والدولة. فهي لا تمنح حقوقاً إلا للمواطنين، دونما تمييز، ولكنها في الوقت ذاته توفّر للطوائف الضمانات التي من حقها الحصول عليها للاطمئنان الى وجودها الحرّ والخيارات المصيرية العامة.

وثقافةُ "العيش معاً" هذه ينبغي أن تجد ترجمتها في رؤية جديدة الى العروبة، هي "عروبةُ العيش معاً" المبرَّأةُ من أي محتوى ايديولوجي يرمي الى توظيفها في خدمة حزب أو دولة. إن لمثل هذه العروبة أصلاً تاريخياً معتبراً في تجربة الأندلس، حيث عاش المسلمون والمسيحيون واليهود معاً على مدى قرون في وئام إنساني وثقافي وديني عزَّ نظيره. هذه العروبة الحضارية هي التي ينبغي أن تنهض من جديد على انقاض "عروبة الثأر والضّغينية" التي قادت العالم العربي، منذ قيام دولة اسرائيل، الى الانطواء على ذاته، كما أعاقت تطوره بصورة فادحة. ومن شأن "عروبة العيش معاً" أن تقدّم إضافةً أصيلة للحداثة الخِلاسيّة المولَّدة التي اخذت تُبصر النور مع تجلّيات العولمة، كما من شأنها أن تؤسس لنظام إقليمي عربي جديد بإمكانه –على غرار بلدانٍ مثل الهند والبرازيل والصين– أن يشارك بكفاءة في رسم صورة النظام العالمي الجديد.

و"عروبة العيش معاً" ينبغي أن تجد ترجمتها في نظرة جديدة الى الشرق الاوسط، "شرق العيش معاً" على قاعدة مبادرة السلام العربية الداعية الى قيام دولة فلسطينية مستقلة والتي يتطلّب نجاحُها تدخُّل َ المجتمع الدولي لإخراج الاسرائيليين من "السجن" الذي وضعتهم فيه تشنُّجاتُهم الدينية – العرقية، هذه التشنُّجات التي تُذِر اليوم بتحوُّل اسرائيل الى دولة تيوقراطية.

وأخيراً، جديرٌ بـ"عروبة العيش معاً" أن تساهم في بلورة نظرة جديدة إلى "المتوسط" بعنوان "متوسط العيش معاً". فهذه البحيرة العظيمة التي كانت صلة وصل وتعارف وتبادل بين الشعوب والثقافات العريقة التي استوطنت شواطئها، وامتدت بعيداً إلى ما وراء تلك الشواطىء، هي اليوم "بحيرة الشقاقات"، تحفُّ بها نزاعات كبرى لا تكفُّ عن توليد شتّى أنواع التمييز الديني والعرقي والقومي الذي لم يعد أحدٌ بمنأى من آثاره التدميرية.