من هو الأب الحقيقيّ؟!
""أما أنا وأهل بيتي فنعبد الرّبّ" (يشوع 24/ 15)
من هو الأب الحقيقيّ لكلّ عائلة من عائلتكم؟ هل الزّوج؟ أو الوالد؟ إنّ الله هو الأب الحقيقيّ لكلّ عائلة ولكلّ إنسان، فالوالد هو الوالد وليس الأب، لأنّ الله الآب هو الأب، والوالد يلد لكي يسلّم أولاده لأبيهم الحقيقيّ.
لقد اعتاد الشّعب في العهد القديم أن يجتمع على مائدة الفصح ويتناول تلك الوجبة العائليّة المقدّسة بتقليد اجتماعيّ دينيّ، وكانت العائلة كلّها تجتمع حول المائدة تاركين رأس الطّاولة فارغًا، وذلك إيمانًا منهم أنّ هذا المكان الرأس هو لله الأب الحقيقيّ، بينما الوالدن كأعضاء وإخوة أكبر على طرفي الطّاولة التي لها الأب الواحد وهو الله.
هذه الصّورة الحقيقيّة والنّهائيّة للعائلة، لكن لم تكتمل إلى أن جاء يسوع المسيح في العهد الجديد، إذ أخذ رباط العائلة صورته الرّوحيّة وشدّد على الرّباط الرّوحيّ أكثر من الرّباط الجسديّ كما كان في العهد القديم.
لأنّه لا يفيد الرّباط الجسديّ للعائلة إذا لم يكن هناك رباط روحيّ. وتحديد الأب الحقيقيّ والدّور الحقيقيّ للوالد.
لقد جاء يسوع إلى العالم ليكشف للنّاس إنّ الله هو أبوهم، وإنّ الله ليس قاضيًا ولا حاكمًا، لذا العهد الجديد يشدّد على أنّ الله أبٌ ليس بصفة حنانه وعطفه ولكن بصفة عضويّته.
هنا يسأل القدّيس مكسيموس لماذا تجسّد الإبن من الثّالوث الأقدس؟ يجيب القدّيس لكي يظهر الله كأب، عندما سينادي يسوع الله : أبّا، أيّها الآب، وهذا اللّفظ يعادل لفظًا "يا بابا"، ويحمل نوعًا من الدّالة لم يكن يعرف لها مثيل قبل يسوع.
في المسيحيّة: هناك تمييز بين "الأب" وهو الله وبين الوالد والوالدة، دور الوالد أو الوالدة هو أن يسيروا بأولادهم إلى أبيهم الحقيقيّ، أيّ إلى الله.
لذلك لا تبنى العائلة بدون الأب وهو الله وليس الوالد، من هذا المنظار بحسب تعبير الذّهبيّ الفمّ: "الوالد الذي لا يقود أولاده إلى أبيهم السّماويّ هو بالأحرى قاتل".
لأجل هذا، فعلى الوالد الذي يحبّ عائلته طبقًا لتعاليم الكتاب المقدّس، إنّما عليه أن يهتمّ أوّلًا بتأمين الحاجة الرّوحيّة لعائلته، فيجعلها متّصلة بالأب الحقيقيّ أيّ الله اتّصالًا وثيقًا، وهو يدرك أنّ سعادة عائلته يجب أن تبنى على أساس من العلاقة الأبويّة الحقيقيّة باللّه، ويكون هذا اعتراف عمليّ بالمكانة الأولى في حياتهم العائليّة.
الواجب الأسمى على الأب المسيحيّ، الوالد، هو أن يهتمّ بقداسة عائلته، ومثاله على ذلك هو المسيح الذي ضحّى بنفسه من أجل عائلته الكبيرة أيّ الكنيسة لكي يقدّسها.
لا يكفي للوالد أن يقود أفراد أسرته إلى الحياة المسيحيّة فتنتهي مسؤوليّته، بل عليه أيضًا أن يبذل كلّ ما في وسعه ليجعلها مستحقّة للحصول على بركة الله الكاملة في الكنيسة. وأيضًا أن يبذل كلّ ما في وسعه لا لتبقى فقط بل لتصير ثابتة وكاملة في القداسة.
أيّها الوالدون: عليكم أن تدركوا ما دعاكم الله إليه لتكونوا رأسًا روحيًّا لعائلاتكم، فكما كان المسيح مسؤول عن العناية بالكنيسة العائلة الكبيرة ونموّها، كذلك أنتم مسؤولون عن العناية الرّوحيّة بعائلاتكم وبنموّها، هذا يعني عليكم أن تمشوا أمامها في طريق الصّليب، فهذا أصدق مثل لمعنى التّضحية بالذّات.
لذلك ربّ الأسرة المسيحيّة، أيّ الوالد، لا يعمل لأجل الجّاه والمال، ولا بكثرة البنون، بل يعمل لتكوين أسرة نموذجيّة؛ يعمل لعائلة تكون أيقونة تشرح فعل الرّوح القدس.
أيضًا يعمل الوالد قبل كلّ شيء على تعليم وتسليم الإيمان للعائلة، أيّ تسليمهم الحياة التي تقودهم إلى الله الآب، وأن يقدّم التّعليم والاعتماد على أب روحيّ للعائلة كمعلّم للإيمان، وأن يكون الوالد بقرب أبنائه ليس من حيث السّكن فقط، بل بتعليمهم حياة الفضائل وتدربيهم عليها، وأيضًا تدريبهم على التّسبيح والمزامير ويؤمّن لهم المعشر الجيّد، وهكذا يسعى الوالد إلى تكوين بيتًا ملوكيًّا للسّيّد ويمنع اللّصوص من سرقة الوديعة التي فيها.
هكذا يساهم الوالد المسيحيّ في تكوين الكنيسة البيتيّة القائمة على المحبّة والتّفاهم وزرع مخافة الله التي هي بدء الحكمة، فيكون المسيح في وسطهم، وتتحوّل العائلة كلّها إلى فردوس صغير ويقول لسان حال الوالد "أنا وأهل بيتي نعبد الرّبّ، آمين"."