لقاء تشاوري لملتقى الأديان: لقمة عالمية لاتخاذ موقف صريح من الظاهرة التكفيرية
بعد الوقوف دقيقة صمت "ابتهالا لأرواح الشهداء والشهيدات، ورجاء للافراج عن المطرانين يوحنا إبراهيم وبولس اليازجي"، تحدث الأمين العام للملتقى الشيخ حسين شحادي، متسائلا: "ما هي الأخطاء التي ارتكبناها ليتصدر الإرهاب التكفيري واجهة المشهد العربي والإسلامي؟ وأي عقل هذا الذي يريد أن يختطف المسيحيين، ويفصلهم عن عروبتهم؟ وهل يمكن أن نقرأ تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا بمعزل عن هذه المسيحية، التي كان لها الدور المميز في كل هذا الشرق، حتى في المقاومة، التي ابتدأت منذ عهد الفرنجة، وامتزج دمنا مع بعضنا البعض؟".
ثم ألقى رئيس ملتقى الأديان والثقافات العلامة السيد علي فضل الله، كلمة جاء فيها: "تعاني المنطقة العربية والإسلامية أزمة لم تعهدها من قبل، وهي بروز منطق تكفيري إلغائي إقصائي يرفض الآخر، كل الآخر، دينيا أو مذهبيا أو عرقيا، ويعتبر أن ما يفكر فيه ويمارسه، هو من عمق الدين، ويستمد منه شرعيته، فالدين هو الذي يبرر له أن يقتل، أو أن يذبح، أو أن يقوم بكل هذه الممارسات التي تقشعر منها الأبدان. ومكمن الخطورة في هذا الطرح، أن يفقد الدين جوهره وانفتاحه ورحابته، فلا يعود، كما مثل طوال تاريخه، دينا يحمل عناوين الرحمة والمحبة والتواصل، ومد الجسور مع الآخرين، والتعايش معهم... ويعتبر أن الإنسان على الإنسان حرام، دمه وماله وعرضه، دينا لا إكراه فيه، دينا يوجب الالتزام بأخلاقيات الحرب حتى وهو يدعو إليها.
إننا لا ندعي أن علاقة أتباع الأديان لم تشبها هنات أو صراعات، فهناك حالات توتر عشناها في لبنان، وفي عدد من البلدان العربية والإسلامية، ولكننا كنا دائما نقول، إنها لم تنطلق من جذور دينية، بقدر ما كانت تعبيرا عن صراع سياسي، يعطى لبوسا دينيا، ويحرك المشاعر الدينية...
ولذلك، غالبا ما كانت القوى والقيادات المشاركة في مثل هذه الصراعات، لا تحمل عنوان الدين، ولا هي من الرموز الدينية، إنما حملت من الدين شكله الطائفي والعصبوي، الذي تستخدمه لشحن النفوس، بهدف تحقيق مآرب سياسية...".
أضاف: "من هنا أيها الأحبة، نحن بحاجة في هذه المرحلة إلى مواجهة هذا المنطق الذي نراه خطرا يهدد ركائز الدين وقيمه واستمراره وحضوره، وحتى الانتماء إليه، عدا ما يسببه من مشكلة كبيرة للواقع الذي نعيش فيه. ونحن نرى إمكانية محاصرته وإضعافه، لكونه لا ينسجم مع قيم شعوب المنطقة وتطلعاتها إلى المستقبل، فضلا عن أن تمدده قائم على الاستفادة من تناقضات الواقع السياسي المتشنج في المنطقة، إقليميا ودوليا، وتوتراته، وهي تناقضات قابلة للمعالجة، لاستشعار جميع الأطراف بمخاطر هذه الحالة، أو لتمكنهم من معالجة المشكلات القائمة في ما بينهم.
ولذلك، إننا نرى إمكانات واسعة لمواجهة هذا الواقع، وذلك عبر القيام بعدة خطوات عنوانها الأساس عزل هؤلاء عن أية حاضنة. ويمكن أن يتم هذا الهدف من خلال الأمور التالية:
أولا، بذل الجهود الفكرية والثقافية لمعالجة جذور هذه الظاهرة، حتى لا تلقى قبولا في الأوساط التي تتواجد فيها. ومن هنا، لا بد من أن يعمل المفكرون والعلماء لإزالة التفسير الخاطئ في فهم الدين وطبيعة العلاقة مع الآخر.
ثانيا، النزول إلى أرض الواقع، والقيام بالدور التربوي المنشود في المدارس، والجامعات، والأندية الثقافية، والكنائس، والمساجد، والحسينيات، لتعزيز مناخات المحبة والرحمة والتواصل، وإزالة التوتر والتشنج الذي ينتجه الواقع السياسي أو الأمني، وعدم استحضار أحقاد التاريخ الأليم، أو الانجرار وراء الأحكام الظالمة تجاه هذا المذهب أو ذاك الدين أو تلك الطائفة.. وهنا، نشدد على دور علماء الدين في أن يكونوا إطفائيين، وألا ينجروا إلى توترات الشارع وانفعالاته.
ثالثا، تثبيت منطق الدولة العادلة التي يشعر فيها أبناء كل الطوائف والمذاهب بأنهم مواطنون من درجة واحدة، لأن أي إحساس بالغبن أو الظلم، سيدفع أصحابه (ونحن لا نبرر ذلك)، إلى التعبئة الطائفية، وإثارة الغرائز المذهبية، أو الاستعانة بأيٍ كان، والاستقواء به، للخروج مما يحسبونه ظلما، وهو ما يهدد وحدة البلاد واستقلالها.
رابعا، تعزيز دور الجيش والقوى الأمنية وتقويتها، كحل بديل لمواجهة كل من يسعى إلى تحويل منطقه الإلغائي والإقصائي إلى مشروع يتحرك في أرض الواقع. ومن هنا، دعونا وندعو إلى تعزيز الجيش اللبناني والقوى الأمنية في لبنان.
خامسا، رفع الصوت عاليا في وجه الذين يؤمنون لهذا المنطق القوة على مختلف المستويات. ونقول لكل الذين يدعمونه، إنهم مخطئون وخاطئون، وتحت أي اعتبار، فهذا المنطق إن استشرى، فهو لن يقف عند حد، بل سيمتد، كما أشار إلى ذلك السيد المسيح عندما قال: "بحق أقول لكم: إن الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيت إلى بيت، حتى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يستدرك البيت الأول، فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النار محلا، وكذلك الظالم الأول، لو أخذ على يديه، لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به، كما لو لم تجد النار في البيت الأول خشبا وألواحا لم تحرق شيئا"، ولقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة}.
سادسا، التعاون الإسلامي المسيحي، وبين كل الأديان، للعمل على علاج هذه الظاهرة، وكل الظواهر المماثلة، وأن نكون جميعا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء، وأن لا يعيش المسيحيون، ولا الإيزيديون، ولا المسلمون وحدهم، أو أن يعانوا آلامهم لوحدهم، بل يهب الجميع ليكونوا صوتا واحدا، ويدا واحدة، في مواجهة كل هذا الواقع المرير ونتائجه وتداعياته.
سابعا، إطلاق دول العالم صوتها في الأمم المتحدة، وأن تكون جادة في قراراتها، وإن كنا نخشى مما تبيته بعض الدول المؤثرة، بعدما سمعنا أنها تدعو المسيحيين إلى الهجرة إليها، رغم تقديرنا لبعد هذه الدعوة الإنساني. ويبقى الدور الأساس للاهتمام بإجراء مصالحات عربية وإسلامية، تساهم في احتواء هذا الخطر الذي يهدد الجميع.
وأخيرا، لا بد من أن نؤكد أننا كملتقى، لن نفوِت أن نبذل أي جهد داخلي وخارجي، انطلاقا من مسؤولياتنا، للوقوف في وجه المنطق التكفيري الإلغائي، والعمل على التخفيف من آثاره وتداعياته، والعلاج ما أمكنا إلى ذلك سبيلا...".
وألقى المطران دانيال كورية كلمة شدد فيها على أن "مسيحيي الشرق يتعرضون لمؤامرة عظيمة، وأن ما يحصل في سوريا والعراق، مأساة إنسانية ينبغي عدم السكوت عنها، فهي تهدد المسيحيين، كما تهدد كل العرب وكل المسلمين".
وقال: "لم نكن نتوهم عندما اختطف المطرانان يوحنا إبراهيم وبولس اليازجي، بأن نقطة الصفر لتهجير المسيحيين من الشرق قد بدأت". وسأل عن سبب صمت المنظمات الإنسانية والحقوقية العالمية، والجهات العربية والدولية، وكذلك الدول الكبرى، التي لا تبدي استعدادا إلا لاستضافة المسيحيين، بعيدا عن بلادهم".
ثم كانت مداخلة للشيخ زهير الجعيد باسم تجمع العلماء المسلمين، أشار فيها إلى أن "الإرهاب التكفيري يضرب الجميع، ولا يميز مسلما عن مسيحي، وأن أهل السنة والجماعة هم من أكبر المتضررين من هذا الإرهاب"، وقال: "إننا عندما انتصرنا على العدو الصهيوني في حرب تموز، وفي غزة، عملوا على ضرب الوحدة بين المسلمين والمسيحيين، وكانت الفتنة الكبرى لحساب العدو الصهيوني".
وفي مداخلة للمطران يوحنا بطاح، قال: "صلاة الفاتحة تشبه صلاة أبانا والسلام، ونحن نشترك بإنسانية واحدة.. نحن من أسلمنا أنفسنا لله قبل الإسلام، فلماذا نكفر؟ التكفيرية تكفرنا، لأنها تجهلنا، والإنسان عدو ما يجهل".
وتحدث الشيخ أحمد كنعان، مؤكدا أن "المظلومين في الشرق هم أهل الشرق كلهم، مسلمين ومسيحيين.. وأن الظلم عم علينا يوم سقطت فلسطين بيد الغاصب.. وإسرائيل تعمل لاستكمال مشروعها، بتقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ".
كما تحدث عمر المصري باسم الجماعة الإسلامية، داعيا إلى "العمل لفصل الفكر التكفيري عن البيئة الحاضنة له"، معتبرا أن "ما يحصل لا يستهدف المسيحيين والشيعة، بل الإنسانية كلها"، مشيرا إلى "استنكار المرجعيات الإسلامية السنية وشجبها لهذه الأعمال". وأكد أن "الذي حصل في العراق يشبه ثورة شعب حرم من أبسط حقوقه، ما جعل الكثير من الشرائح تنحو نحو التطرف".
اما الدكتور زكي جمعة فقال: "إننا أمام مشهد مفتوح على كثير من الأخطار، وأمام عقل جاهلي متوحش، يتحرك في عملية إبادة عابرة للبلدان والحدود". ولفت إلى أن "ذلك هو انعكاس للمشروع الصهيوني الهادف إلى إنهاء الوجود الإنساني والحضاري في هذه المنطقة".
ثم تلا الشيخ دانيال عبد الخالق وثيقة اللقاء التشاوري، وجاء فيها:
"لا تزال الأحداث الإرهابية الدموية الجارية في العراق وسوريا ولبنان، هي الأكثر خطورة على مستوى المنطقة العربية والإسلامية برمتها، وذلك بما تركته من مظالم فادحة تستهدف بعدوانيتها تغيير البنى الروحية والثقافية والأخلاقية لقيمنا المشتركة، وهو الأمر الذي وضع أكثر من علامة استفهام حول القوى الداعمة لحركات التطرف، وصلتها بتمزيق النسيج الاجتماعي، وتقسيم الأوطان والشعوب.
كذلك، ولا يخفى أن العوامل والصراعات الخارجية والدولية والإقليمية، قد لعبت دورا كبيرا في استمرار هذه المحنة وهذه المأساة، التي تطاول المسلمين والمسيحيين والأقليات الدينية، وليس آخرها المجازر الوحشية التي يتعرضون لها، وعمليات التهجير الواسعة.
ولعل ما جرى في الموصل ونينوى وسنجار، وسواها من المدن العربية والإسلامية، من قتل، وتدمير، وتهجير، وانتهاك لجميع الحرمات، بما في ذلك حرمة الأطفال والأمهات والعزل والأبرياء، يكاد في واقعه الأليم يلخص حجم ما آلت إليه ظاهرة الصمت المريب واللامبالاة المستهترة بمخاطر الأحداث وتداعياتها الكارثية على جميع الدول والبلدان.
وأمام هذا المشهد المظلم المفتوح على جميع الاحتمالات، وجه ملتقى الأديان والثقافات دعوته إلى هذا اللقاء التشاوري، بمشاركة ثلة من النخب الثقافية والدينية والاجتماعية والإعلامية، برجاء أن نقوم معا يدا بيد، وبجميع المساعي والجهود، لمواجهة هذا الخطر وتحدياته، واتخاذ المواقف المناسبة لحماية عيشنا المشترك، وأخلاقنا المشتركة في لبنان والمنطقة.
وانطلاقا من شعورنا بالمسؤولية، نحن المسلمين والمسيحيين، وكل فئات المجتمع، في لقائنا التشاوري، نرفع هذا النداء:
أولا: ينظر اللقاء إلى الظاهرة التكفيرية الإقصائية بوصفها ظاهرة لا تنطلق من عمق الدين وجذوره، التي تدعو إلى المحبة، والرحمة، والانفتاح على الآخر، ومد جسور التواصل معه.
ثانيا: يدعو اللقاء التشاوري إلى عمل وطني مشترك، ودولة العدالة والحريات، لمواجهة حالات التنافر والانقسام، التي تستغلها حركات الإرهاب والتطرف، لتأجيج الفتن وضرب الوحدة الوطنية.
ثالثا: واللقاء إذ يعرب عن دعمه وتضامنه مع القوى الأمنية الرسمية، الحريصة على سلامة الوطن وسلمه الأهلي، فهو واثق من تحصين مجتمعاتنا بالوعي والمناعة، والتعاون على ردع هذا الخطر الذي يهدد حاضر الوطن ومستقبله.
رابعا: يدعو اللقاء المرجعيات الدينية والروحية كافة، إلى أوسع قمة عالمية روحية واستثنائية، لاتخاذ موقف مشترك وصريح من الظاهرة التكفيرية.
خامسا: يستنكر اللقاء، وبشدة، ما تتعرض له الأقليات الدينية بعامة، والأيزيدية بخاصة، ويدين جميع الأعمال الوحشية والإجرامية التي استهدفت ولا تزال تستهدف ضرب العيش المشترك في صميم مكوناته وقيمه.
سادسا: يؤكد اللقاء التشاوري تضامنه مع نداء بطاركة الكنائس الشرقية، ودعوتهم الموجهة إلى كل الأنظمة والدول التي تدعم المنظمات الإرهابية، بشكل مباشر وغير مباشر، وتسلحهم وتمولهم، إلى إيقاف ما تقوم به، لأن التطرف الديني، أيا كان مصدره، سيؤذي من يدعمه، ويطاول سلبا من لم يقاومه.
سابعا: ينظر اللقاء التشاوري إلى الوجود المسيحي في بلدان الشرق الأوسط، بوصفه جزءا لا يتجزأ من الهوية العربية ونسيجها الثقافي والروحي، وهو إذ يؤكد وجوب احترام المواطنة المتساوية، يشجب ويستنكر جميع أشكال الضغوط الرامية إلى تهجير المسيحيين من ديارهم وأوطانهم.
ثامنا: يدعو اللقاء في اجتماعه التشاوري هذا إلى تشكيل لجنة تبادر إلى درس كل الوسائل الممكنة التي تساهم في عودة النازحين والمهجرين إلى ديارهم آمنين.
تاسعا: يوجه اللقاء التشاوري دعوته إلى جميع المنابر والمؤسسات الإعلامية في لبنان والعالم، لتحمل مسؤولياتها الكاملة، من خلال البرامج الخاصة بتعزيز مناخات الاعتدال والانفتاح والمصالحات، ووضع حد لا يسمح بظهور المجاهرين بخطاب الفتنة والتطرف الديني بجميع أشكاله".