قصّة اليوم: كلّ نصيحة أحسن من بعير
وبعد عدّة سنوات اشتاق فيها الرّجل لبيته ورؤية أهله وأبنائه، فأخبر التّاجر عن رغبته في العودة إلى بلده، فعزّ عليه فراقه لصدقه وأمانته، فكافأه وأعطاه بعضًا من الإبل والماشية.
سار الرّجل عائدًا إلى أهله، وبعد أن قطع مسافة طويلة في الصّحراء القاحلة، رأى شيخًا جالسًا على قارعة الطّريق، ليس عنده شيء سوى خيمة منصوبة بجانب الطّريق، وعندما وصل إليه حيّاه وسأله ماذا يعمل لوحده في هذا المكان الخالي وتحت حرّ الشّمس، فقال له: أنا أعمل في التجارة.
فعجب الرّجل وقال له: وما هي تجارتك؟ فقال له الشيخ: أنا أبيع نصائح، فقال الرّجل: وبكم النّصيحة؟! فقال الشيخ: كل نصيحة ببعير. فأطرق الرّجل مفكرًا في النّصيحة وفي ثمنها الباهظ الّذي عمل طويلًا من أجل الحصول عليه، ولكنّه في النّهاية قرّر أن يشتري نصيحة، فقال له: هات لي نصيحة.
فقال الشيخ: "اذا طلع سهيل لا تأمن للسيل".
قال في نفسه: ما لي ولسهيل في هذه الصحراء الموحشة، وماذا تنفعني هذه النّصيحة في هذا الحرّ، وعندما وجد أنّها لا تنفعه قال للشيخ: هات لي نصيحة أخرى وسأعطيك بعيرًا آخر.
فقال له الشيخ: "لا تأمن لأبوعيون زرق وأسنان فُرْق".
تأمّل صاحبنا هذه النّصيحة أيضًا وأدارها في فكره ولم يجد بها أي فائدة، فقال للشيخ هات النّصيحة الثّالثة وسأعطيك بعيرًا آخر.
فقال له: "نام على النَّدَم ولا تنام على الدّم".
لم تكن النصيحة الثّالثة بأفضل من سابقتيها، فترك الرّجل ذلك الشيخ وأعطاه الجمال الثّلاثة، وساق ما بقي معه من إبل وماشية وسار في طريقه عائدًا إلى أهله عدّة أيّام نسي خلالها النّصائح من كثرة التّعب وشدّة الحرّ.
وفي أحد الأيام أدركه المساء فوصل إلى قوم نصبوا خيامهم في قاع واد كبير، فتعشى عند أحدهم وبات عنده، وبينما كان يتأمل النجوم شاهد نجم سهيل، فتذكر النّصيحة التي قالها له الشيخ فقام سريعًا وأيقظ صاحب البيت وأخبره بقصة النّصيحة، وطلب منه أن يخبر قومه حتى يخرجوا من قاع ذلك الوادي، ولكنّ المضيف لم يكترث له، فقال الرّجل: والله لقد اشتريت النّصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي، فقرّر أن يبيت على مكان مرتفع، فأخذ إبله وماشيته وصعد إلى مكان مرتفع بجانب الوادي، وفي آخر الليل هطل المطر بشدّة وجاء السيل يهدر كالرعد، فهدم البيوت وشرّد القوم.
وفي الصّباح سار عائدًا نحو أهله، وبعد يومين وصل إلى بيت في الصحراء، فرحّب به صاحب البيت وكان رجلًا نحيفًا خفيف الحركة، وأخذ يزيد في التّرحيب به والتّودّد إليه حتى أوجس منه خيفة، فنظر إليه واذا به "ذو عيون زرْق وأسنان فُرْق" فقال: آه هذا الّذي أوصاني عنه الشّيخ، إن به نفس المواصفات لا ينقص منها شيء.
وفي الليل تظاهر الرّجل بأنه يريد أن يبيت خارج البيت قريبًا من إبله وأغنامه وأخذ فراشه وجرّه في ناحية، ووضع حجارة تحت اللحاف، وانتحى مكانًا غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه، وبعد أن أيقن المضيف أنّ ضيفه قد نام، أخذ يقترب منه على رؤوس أصابعه حتى وصله ثم هوى عليه بسيفه بضربة شديدة، ولكن الضيف كان يقف وراءه، فقال له: لقد اشتريت النصيحة ببعير، ثم ضربه بسيفه فقتله، وساق إبله وماشيته وقفل عائدًا نحو أهله.
وبعد مسيرة عدة أيام وصل ليلاً إلى منطقة أهله، وسار ناحية بيته ودخله فوجد زوجته نائمة وبجانبها رجل، فاغتاظ لذلك ووضع يده على حسامه وأراد أن يهوي به على رؤوس الاثنين، وفجأة تذكّر النّصيحة الثّالثة التي تقول "نام على النّدم ولا تنام على الدّم"، فهدأ وتركهم على حالهم، وخرج من البيت وعاد إلى أغنامه ونام عندها حتّى الصباح.
وبعد شروق الشّمس ساق إبله وأغنامه واقترب من البيت فعرفه النّاس ورحّبوا به، واستقبله أقاربه وقالوا له: لقد تركتنا فترة طويلة، أنظر كيف كبر خلالها ابنك حتى أصبح رجلًا. ونظر الرّجل إلى ابنه واذا به ذلك الشّاب الّذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته، فحمد الله على أن هداه إلى عدم قتلهم، وقال في نفسه: حقًا.. كلّ نصيحة أحسن من بعير.
"اختبروا كلّ شيءٍ وتمسّكوا بالحسن" (1تس5: 21)