قصة اليوم : "ملبن يا راهب!"
جلست على الأرض وأسندت ظهري إلى الحائط، مددت يدي لألتقط كتابي المقدس وإذ شعرت بطعم غريب في حلقي .. ما هذا يا ربي ؟ حاولت ألا أفكر في الأمر وأن أكمل يومي، ولكني تذكرت هذا الطعم، نعم إنه طعم "الملبن". تعجبت كثيراً فأنا لم أذق هذا النوع من الحلوى منذ ما يقارب الأربعين سنة، حاولت ألا أعير الأمر اهتماماً وبدأت أقرأ في الكتاب المقدس، ولكن لم تمر إلا لحيظات قليلة وإذ بي أفقد تركيزي وشهوة الملبن تشتعل داخل حلقي. أغلقت كتابي ووضعته في مكانه وطلبت من الله أن يمر هذا اليوم على خير، لكن لم أكف عن الشعور بطعم الملبن.. فخرجت خارج القلاية أحدث نفسي "ملبن يا راهب !! ملبن يا متوحد ؟؟ أجئت إلى البرية هنا لتبحث عن الملبن ؟! إذا كان الرهبان في الدير لا يتذوقوه، أتطلبه أنت هنا في الصحراء يا متوحد ؟! ملبن يا عجوز !!! "
دخلت من جديد إلى قلايتي وأغلقت بابي عليّ، وصرت أتضرع إلى الله أن يرحمني ويتحنن عليّ، وأتضرع أمامه حيناً بالصلوات وحيناً بالدموع وحيناً آخر بقرع الصدر، أطلب منه ألا تتسلط عليًّ هذه الشهوة، وألا تكون نهاية أيامي معه بشهوة مثل هذه . بقيت على هذه الحال طيلة اليوم، إلى أن غادرت الشمس سماء الصحراء الواسعة، وبدأت تعطي شفق الغروب الأخير ...وإذ بي أجد باب القلاية يقرع. رسمت إشارة الصليب ثم ذهبت لأسأل عن الطارق، فرد عليَّ "أغابي يا أبي" فقلت "أغابي!" فقال "أنا إبنك أبونا القس فلان، هل تصنع معي محبة؟" ففتحت له ووجدته فعلا أبونا "س" وقد كان متعباً جداً، فسألته عما أتى به إلى هنا، فأخبرني أن الطبيب أوصاه أن يمشي كثيراً كل يوم لأنه مصاب بمرض السمنة، فأخذ يتمشى في الصحراء حتى ضل الطريق وإذا به عند باب مغارتي .
رحبت به واستقبلته عندي تلك الليلة، صلينا معًا ثم نمنا، وفي الغد استيقظنا وصلينا أيضاً حتى شروق الشمس، فاستأذنني أن يغادر، فقلت له "لابد أن أوصلك حتى لا تضل الطريق ثانية"، رفض كثيراً، ولكني صمّمت على ذلك .
مشينا سوياً في الصحراء حتى وصلنا على بعد أمتار قليلة من أسوار الدير، وشكرني كثيراً، ثم ابتسم لي، وأخرج لي من جيبه شيء مستطيل ملفوف في ورقة وقال لي "تفضل يا أبتي هذا من يد المسيح وبالتالي لا يمكنك ترفضه"، فشكرته وودعته، ثم رجعت إلى قلايتي .
وفي المساء، صليت في الوقت المعتاد، ثم جلست لأقرأ وبعد أن انتهيت من قراءتي جاءت عيني على الورقة التي أعطاني إياها الكاهن، فتحت الورقة وإذ بها قطعة من الملبن !
نظرت إليها وأنا أتعجب مما كنت فيه بالأمس، حيث لم تعد في بالي هذه الشهوة التي كدّرت عليّ يومي الماضي، وتذكرت أنه حتى في صغري لم يكن يستهويني هذا النوع من الحلوى. ضحكت كثيراً، وتذكرت كلمة الكاهن لي "هذا من يد المسيح". وضعت قطعة الملبن حتى آكلها وقت المساء، وصرت أتأمل طيلة هذا اليوم في حنو الله علينا وكيف أنه لا يهتم بنا فقط بل يدلّلنا أيضاً "على الأيدي تحملون وعلى الركبتين تدلّلون" (أش 66 : 12).
عجيب هو الله في حنوه .... فهو لا يعطينا الأشياء الضرورية التي نحتاجها فقط بل حتى الأشياء التي قد تبدو غير ضرورية وصغيرة في نظر الناس.
إن تأملت قليلاً فيه سوف لا تجده إله الملايين والمليارات من البشر، بل إلهك الشخصي الذي يهتم بكل تفاصيل حياتك، ويعطيك كل ما تحتاج ولكن شرط ألا يصارعه في قلبك احتياجك هذا.
"أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وكل هذه تزاد لك. "