قصة اليوم: بائع الحليب
فتحت الباب ورحّبت به قائلًا "أهلاً بك، كيف حالك يا عم جرجس؟"، "الحمد لله"، قالها باقتضاب شديد وبلهجة حادّة. صبّ لي ما أحتاجه من اللبن، ودخلت لأحضر النقود وأعطيها له وقلت "أراك كئيباً على غير العادة ماذا بك؟". "أبداً واحدة من الزبائن - مدام دميانة - أنتِ تعرفينها، تدين لي بمبلغ كبير من المال، نظير لبن بعته لها طوال الثلاث أشهر الماضية، وقد انتقلت إلى بيت آخر ولم تترك عنوانها الجديد ولا يعرف أحد من جيرانها أين ذهبت". لم أعرف ماذا أقول فتمتمت ببعض الكلمات مثل "ولا يهمك الله يعوض لك".
كنت أعرف دميانة، وأراها دائماً مع أولادها الصغار الأربعة. ظروفها المادية كانت صعبة، وزوجها كان يبحث عن عمل.
مرّت ثلاثة أيام صوم يونان لم أرَ فيها عم جرجس ولكن عندما جاء بعد الصوم، وجدت أن حاله لم يتحسن، بل بالعكس تحوّلت الكآبة إلى غضب وعصبية، فسألته "هل مازلت متأثراً بما حدث؟" "نعم" كان من الصعب أن أرى شخصاً مرحاً، يمتلئ مرارة بسبب موضوع مادي، فقلت له "نصحتني جدتي زمان أنه عندما يأخذ أحداً شيئاً يخُصني رغماً عني، أقدمه له هدية مني"،
"ماذا تقصدين؟"
"يجب أن تعطي اللبن هدية منك لدميانة وأولادها، وتذكّر أنه لولاك لما شرب الأطفال لبناً دافئاً في أشهر الشتاء الباردة"
"ولكن اللبن قيمته حوالي مائة جنيه، وأنا لم اُعط أحداً من قبل هدية ثمينة كهذه"
"تذكر وصيّة الرب يسوع، من أخذ الذي لك فلا تُطالبه"
"لا أقدر على تنفيذ هذه الوصية، فهي صعبة جداً" قال هذا ومضى.
عندما جاءني اليوم التالي، ضحكت معه قائلة "ما أخبار الهدية يا عم جرجس؟" رد "أحاول ولكنني لا أقدر، فمازلت أُريد نقودي".
تغيّب يومين وعندما رأيته قال لي "لقد صلّيت كثيراً ليلة أمس، وطلبت قوّة لتنفيذ الوصيّة، لقد أعطيتها اللبن هديّة مني. وكم أنا سعيد بهذا!". فرحت أنا أيضاً لأنّه نفّذ الوصيّة وعاد لطبيعته المرحة البشوشة.
في اليوم التالي رأيته يضحك قائلاً لي "هل تدري ماذا حدث أمس بعد أن تركتك؟"
"أخبرني!"
"واحد من زملائي مريض، وطلب مني أن أقوم ببيع اللبن لزبائنه ريثما يتعافى من مرضه. وفيما أنا راكب الدرّاجة سمعت صوتاً يُناديني "عم جرجس...عم جرجس..." أوقفت الدراجة لأرى صاحبة الصوت، وإذا بها مدام دميانة تركض ورائي وتقول لي "كيف حالك يا عم جرجس، أنا آسفة جداً لأنني نقلت بدون ترك عنواني الجديد، أنا مدينة لك بمائة جنيه، صحيح أنا لا أمتلك المبلغ كلّه الآن، ولكن أرجو أن تأخذ عشرين جنيهاً الآن، وتعود مع بداية كل شهر حتى أسدّد الدّين كلّه". سألته "وهل أخذت العشرين جنيه؟" ردّ بابتسامة عريضة "وهل يأخذ أحد ثمن الهديّة؟؟؟."
لا تستميت أن تأخذ حقوقك مقابل أن تخسر الآخرين من حولك بل إن كانت حقوقك هذه ستضيّع أخيك الذي مات المسيح من أجله، فتنازل عنها بمحبة عالماً أن الله لا يضيع عنده شيء وهو سيذكر تعب محبّتك، فالمحبة تستحق التعب .