قصة اليوم: المحبّة قويّة كالموت
تعوّدتُ كلّ ليلة أن أتمشّى قليلاً لمدّة نصف ساعة، وفي طريقي كنتُ أشاهد طفلة لم تتعدّ السّابعة من العمر تلاحق فراشات ترفرف حول إحدى أعمدة الإنارة المعلّقة على سور أحد المنازل. لفت انتباهي شكلها وملابسها، كانت تلبس فستانًا ممزّقًا ولا تنتعل حذاءً، شعرها طويل وعيناها خضراوتان. في البداية لم تلاحظني ولكن مع مرور الأيّام أصبحت تنظر إليّ ثمّ تبتسم.
في أحد الأيّام، استوقفتها وسألتها عن اسمها، فقالت: "أسماء"! فسألتها عن منزلها، عندها أشارت إلى غرفة خشبيّة بجانب سور أحد المنازل وقالت: "هذا هو عالمنا، أعيش فيه مع أمّي وأخي خالد"، أمّا والدها فكان "يعمل سائقًا في إحدى الشّركات الكبيرة ثمّ توفّي في حادث مروريّ"؛ ثمّ انطلقت تجري عندما شاهدت أخاها خالد يركض إلى الشّارع، فمضيتُ في حال سبيلي.
ويومًا بعد يوم، كنتُ كلّما مررتُ أستوقفها لأجاذبها أطراف الحديث.. وفي إحدى المرّات سألتها عن أمنيتها، فأجابتني: "كلّ صباح أخرج إلى نهاية الشّارع لأشاهد دخول الطّلّاب إلى المدرسة، أشاهدهم يدخلون إلى هذا العالم الصّغير من باب صغير ويرتدون زيًّا موحّدًا ولا أعلم ماذا يفعلون خلف هذا السور، أمنيتي أن أصحو كلّ صباح لألبس زيّهم وأدخل من هذا الباب وأعيش معهم وأتعلّم القراءة والكتابة".
لا أعلم ماذا جذبني في هذه الطّفلة الصّغيرة، قد يكون تماسكها رغم ظروفها الصّعبة، وقد تكون عيناها! لا أزال أجهل السّبب! وأنا كلّما مررتُ من هذا الشّارع أحضر لها شيئًا معي: حذاء، ملابس، ألعاب، أكل... إلى أن أخبرتني مرّة أنّ خادمة تعمل في أحد البيوت القريبة منهم قد علّمتها الحياكة والخياطة والتّطريز، وطلبت منّي أن أحضر لها قماشًا وأدوات خياطة فلبّيتُ طلبها وفرحت كثيرًا.
وذات يوم طلبت منّي شيئًا غريبًا، فقالت: "أريدك أن تعلّمني كيف أكتب كلمة أحبّك"، فجلست معها على الأرض وبدأتُ أخطّ لها على الرّمل كلمة "أحبّك" وكانت تراقبني وتبتسم. وهكذا في كلّ ليلة كنتُ أكتب لها كلمة "أحبّك" حتّى أتقنت كتابتها بشكل رائع.
وفي ليلة غاب قمرها، التقيتُها فبادرتني قائلة لي بإصرار: "أغمض عينيك"، فأغمضتهما وفوجئت بها تقبّلني ثمّ تجري وتختفي داخل الغرفة الخشبيّة. وفي اليوم التّالي، طرأ ظرف استوجب سفري خارج المدينة لأسبوعين متواصلين، ولكن لم أستطع أن أودّعها فرحلتُ وأنا عالم أنّها تنتظرني كلّ ليلة. لم أشتق لشيء في مدينتي أكثر من شوقي لـ"أسماء"، فخرجت لدى عودتي مسرعًا، وقبل الموعد وصلتُ إلى المكان وكان عمود الإنارة مُطفأً والشّارع هادئًا. أحسستُ بشيء غريب، انتظرتُ كثيرًا ولم تحضر فعدتُ أدراجي. وعندما طال غيابها، قرّرتُ زيارة أمّها للسّؤال عنها فربّما تكون مريضة. استجمعتُ قواي وذهبتُ للغرفة الخشبيّة، طرقتُ الباب فخرج أخوها خالد ثم لحقته أمّه وقالت لي: "يا إلهي.. لقد حضر! لقد وصفتك كما أنت تمامًا!" ثمّ أجهشت في البكاء، وعلمتُ حينها أنُ شيئًا قد حصل ولكنّني أجهل طبيعته.
هدّأت من روع الأمّ وسألتها: "ماذا حصل؟ أجيبيني أرجوك"، فردّت: "لقد ماتت "أسماء"! وقبل وفاتها قالت لي سيحضر أحدهم للسّؤال عنّي فاعطيه هذا وعندما سألتها من يكون؟ قالت أعلم أنه سيأتي .. سيأتي لا محالة ليسأل عني؟؟ أعطيه هذه القطعة"، وعندما سألتها عن سبب وفاتها، أوضحت مضيفة: "في إحدى اللّيالي ارتفعت حرارة ابنتي وأحسّت بإعياء شديد فخرجتُ بها إلى أحد المستوصفات الخاصّة القريبة، طلبوا منّي مبلغًا ماليًّا كبيرًا مقابل الكشف عليها ومعالجتها، لكنّي لا أملك المال فتركتهم وذهبتُ الى أحد المستشفيات العامّة وكانت حالتها تزداد سوءًا فرفضوا إدخالها بحجّة عدم وجود ملفّ لها عندهم؛ عدتُ إلى المنزل ورحتُ أضع لها الضمّادات ولكنّها كانت تحتضر بين يديّ ثمّ أجهشت في بكاء مرير "لقد ماتت.. ماتت أسماء". لم أستطع البكاء، لم أستطع التّعبير بدموعي عن حالتي حينها، لا أعلم كيف أصف شعوري، خرجتُ مسرعًا لم أعد إلى منزلي بل رحتُ أطوف في الشّارع. فجأة، تذكّرت الشّيء الّذي أعطتني إيّاه أمّ "أسماء"، فتحتُه فوجدتُ قطعة قماش صغيرة مربّعة وقد نقش عليها بشكل رائع كلمة "أحبّك" وامتزجت بقطرات دم.
عندها عرفتُ سرّ رغبتها في كتابة كلمة "أحبّك"، وعرفتُ الآن لماذا كانت تخفي يديها في آخر لقاء إذ كانت أصابعها تعاني من وخز الإبرة الّتي كانت تستعملها للخياطة والتّطريز. إنّها أصدق كلمة حبّ في حياتي، لقد كتبتها بدمها، بجروحها، بألمها. كانت تلك اللّيلة هي آخر ليلة لي في هذا الشّارع فلم أعد أستطع أن أمرّ بالشّارع من دون رؤيتها، من دون أن أتذكّر كلّ اللّحظات الّتي قضيناها سويًّا، وعرفتُ معنًى جديداً عميقاً للمحبّة، وكيف كان رائعاً أن تموت أسماء متيقّنة أنّ هناك شخصًا واحدًا على الأقلّ سوف يفتقدها ويعود ليسأل عنها، وبرغم ما عانيتُه من آلام الوحشة والفراق إلّا أنّني أدركتُ كم أن المحبّة قويّة كالموت.