صوم الميلاد وتهيئة القلب!!
جسر الصوم هو المعبر الذي اتّخذته الكنيسة للالتقاء بمولود المذود لما رأت فيه من وسيلة تؤهّل الإنسان لبلوغ سرّ الخلاص في ميلاد الربّ يسوع. فالإنسان لا يفهم أسرار الروح ما لم يتحرّر من رباطاته الأرضيّة، والصوم طريقةٌ ناجعة تحُلّ الإنسان من قيود الدنيا لينطلق نحو أسرار الكلمة المتجسّد.
الصوم هو طريق الجهاد الذي يقود المسحيّين نحو سرّ الميلاد العجيب لأنّه يكسر حواجز عديدة، منها المُعيق ومنها الأثيم التي تفصل الإنسان عن الله. هكذا، يشرق شمس البرّ على قلوب تدرّبت، بفعل الصوم، على الانعتاق من احتياجات العالم لنوال الشبع الحقيقيّ من طفل المذود الذي يكفي حاجات الجسد والنفس والروح.
يحمل ميلاد الربّ يسوع رسالة رجاء وخلاص إلى الخليقة كلّها، والصوم يؤهّل الإنسان للتمتّع بهذه الرسالة والإفادة منها لأنّه انحلال من مطالب الجسد للتفرّغ لمطالب الروح مع المسيح وفي المسيح. لهذا، تطلب الكنيسة من المعمَّد أن يصوم. فمن أراد أن ينمو روحيًّا، عليه أن يرتفع على سلّم الصوم لأنّ "المولود من الجسد هو جسد والمولود من الروح هو روح"(يو6:3).
وكما أنّ الميلاد هو نزول كلمة الله إلينا، فهو أيضًا صعود أفكار البشر وقلوبهم إليه. هو رحلة عبورنا –من خلال الصوم والصلاة والمحبّة- إلى مجده. ولمّا نزل كلمة الله المتجسّد ليرفعنا فإنّ رحلتنا إليه ليست شرقًا أو غربًا بل هي إلى فوق (اتّجاهات روحيّة)، رحلة نسكيّة بطبيعتها غير محمّلة بأشواق أرضيّة، تنطلق من الذات إلى الله ولا تعود إلّا بميلاد المسيح فيها ليجدّد طبيعتها التي أفسدتها الخطيئة.
الصوم بصرامته كلّها يؤهّل النفس للفرح الحقيقيّ، فرح حضور المخلّص، وحلوله وسط الجسد الخاشع!
على أنّ صوم الميلاد هو الموسم الوحيد الذي يمتزج فيه الفرح بالصوم فيظهر الصوم كعبادة روحيّة مفرحة تحمل في ظاهرها خشونة وفي جوهرها فرحٌ حقيقيّ باستعلان مُشتهى الأمم في القلب الفقير من محبّة العالم!
نزول ربّنا يسوع هو دعوة للتقرّب منه ولا نستطيع قبول الدعوة ببطون ممتلئة! فإن كان موسى صام أربعين يومًا للتقرّب من الله ليستلم كلمة الله المكتوبة على ألواح حجريّة فكم نحتاج نحن إلى صوم لنؤهّل لميلاد كلمة الله الحي في قلوبنا؟!
الميلاد هو حالة من التجلّي المستمرّ والظهور الدائم في حياة نفسٍ صعدتْ مع يسوع الصائم على جبل الصوم فوق اهتمامات الجسد ….
فابتهجي يا أورشليم..واستعدّ أيّها المذود..فإنّ الربّ نازل….هوذا الذي يمسك الكون بيديه تمسكه يد مريم…والذي يملأ الكون ينظره المجوس وسط التبن…شمس البرّ نزل ليضيء العالم فلا حاجة إلى النظر إلى النجوم يا مجوس..هوذا الذي يضيء يسكن القلوب الصائمة،،
المسيح ولد ... حقًّا ولد، لأجل خلاصنا.