ثقافة ومجتمع
17 أيار 2018, 07:00

رحلت ودفنت سرّها معها

ريتا كرم
فاطمة محمّد عثمان 53 عامًا من بلدة عين الذّهب العكّاريّة "المتسوّلة المليونيرة" كما أطلق عليها البعض. هي من ذوي الاحتياجات الخاصّة ظهرت قبل حوالى سبعة أشهر في صورة وهي تشرب المياه من يد أحد عناصر الجيش اللّبنانيّ، صورة أحدثت وقتها ضجّة كبيرة عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ رفع خلالها روّادها القبّعة احترامًا لهذا العنصر، فاستحقّ تهنئة وترقية من قيادة الجيش.

 

هي نفسها السّيّدة الّتي وجدت يوم الثّلاثاء في منطقة الأوزاعي- لبنان، جثّة هامدة داخل سيّارة قديمة أقرب منها إلى الخردة، سيّارة حوّلتها إلى منزلها الدّائم.

لم يكن خبر وفاتها الطّبيعيّة الصّدمة، وإنّما ثروتها الّتي جمعتها من التّسوّل كانت المفاجأة الكبرى، فهي تمتلك بالأرقام ما يقارب الخمسة مليون ليرة لبنانيّة، وثلاثة دفاتر مصرفيّة وحساب بقيمة مليار وسبعمئة مليون ليرة. ثروة جمعتها لتؤمّن آخرتها كما يقول من عرفوها، ثروة لو اختارت استثمارها لكانت عاشت حياة كريمة تقيها شرّ ما تعرّضت له وعانته في تلك الشّوارع، ضامنة لنفسها آخرة صالحة كما كانت تتمنّى، آخرة لربّما كانت أطالت من عمرها.

هي رحلت تاركة لأمّها وأشقّائها الخمسة وشقيقتيها ثروة ما كانوا على علم بوجودها. رحلت بعد أن خضّت ضمير المجتمع اللّبنانيّ، ليس بسبب ما اكتنزته من أموال، وإنّما بسبب تقاعص أودى بمواطنة إلى حافّة الطّرقات لأنّ ظروف الحياة عاكستها.

هي أغمضت عينيها عن قساوة تلك الحياة لترتاح حيث لا ذلّ ولا خوف ولا تشرّد، حيث الكلّ متساوون، وحيث تصمت لغات المال والطّمع والجشع والإهمال ليحكم صوت الحقّ والعدل والكرامة والمحبّة.

دُفنت ودفنت معها سرّها، سرّ هذه الثّروة الّتي حرّكت فضول الكثيرين متسائلين "من أين لك هذا؟". ولكن الأهم أنّها غابت مقدّمة للإنسانيّة درسًا أنّ "ما حدا بيروح من هالدّنيا وبياخد معه شي".

اليوم، لا يسعنا إلّا أن نتمنّى أن يستردّ المواطن كرامته مع المجلس النّيابيّ المنتخَب ومع الحكومة الجديدة، فلا يعود فقير يرزح على الطّرقات عوزًا، ولا تطرد بلوة كائنًا من كان من منزله محوّلة حياته إلى غربة وتشرّد، ولا يموت محتاج عند باب المستشفيات أو يُجرّد من حقّ الاستشفاء لأنّ لا أموال لديه.

عسى في هذا العهد الجديد يعود إلى الأرزة نبضها وتكون كرامة الإنسان عنوانه وصون كرامته مشروعه.