ثقافة ومجتمع
14 شباط 2017, 13:55

خاصّ- في دير مار يوسف جربتا.. حبّ من نوع آخر!

ريتا كرم
اليوم، كلمة واحدة تختصر كلّ لغات العالم، كلمة: "أحبّك"! اليوم، عيد واحد يحيي دقّات القلوب العاشقة والولهانة فتتراقص على سلّم الأنغام بانسياب أكثر من أيّ وقت مضى، وتفجّر بركان مشاعر سامية، وتحتفل بانتصار القلب.. إنّه عيد الحبّ! في هذا العيد، اختبار من نوع آخر ينقله لكم موقع "نورنيوز" الإخباريّ. حبّ تترجمه الأفعال أكثر من الكلمات، وتجسّده ضحكات مسنّين ارتسمت على وجوههم ملامح الشّيخوخة، وصلوات كبار زادوا بركة دير مار يوسف- جربتا- حيث ضريح القدّيسة رفقا.

 

ففي زيارة، أرادتها أسرة الموقع إلى بيت الرّاحة في جربتا لمناسبة عيد الحبّ، قصّة راهبة كرّست نفسها للخدمة بطاعة وعطاء، والأهمّ.. بـ"محبّة"! هي الأخت حنّة المتحدّرة من سلالة العائلة الرّهبانيّة للقدّيسة رفقا، الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة. هي تقف عند مدخل الدّار بثغرها المبتسم وكلماتها المرحّبة تدعونا للدّخول. و"زوزو" أحد سكّانه، يمدّ يد العون لنا ويقودنا إلى الدّاخل بحماسة الأطفال وبساطتهم. أمّا في الصّالون فتجلس مسنّات تهيّأنَ لاستضافتنا، وفي جعبتهنّ خبرات في "الحبّ الحقيقيّ"، وفي الرّواق رفاقهم تسمّروا في أماكنهم تحضيرًا لصلاة المسبحة الورديّة.

هنا، في الدّار، عيد الحبّ حاضر على مدار السّنة بفضل جهود الأخت حنّة الّتي جُبل ساعداها بخدمة المسنّين منذ 6 سنوات متواصلة. فهي بأمر الطّاعة تحوّلت إلى مسؤوليّة الدّار الّذي كان في الأساس مأوى للرّهبان والّذي راح يستقبل العلمانيّين إبّان الحرب اللّبنانيّة. فكانت تمضي فيه يوميًّا نحو ساعتين تهتمّ بالعجزة طوال  13 سنة متواصلة لتتوّقف بأمر الطّاعة أيضًا 9 سنوات، وتعود لتبقى هي العين السّاهرة واليد الحاضنة لكبار حجزت لهم الظّروف، إراديًّا أو لا إراديًّا، غرفة في هذا المكان المفعم بالفرح والسّكينة والأمل رغم الغصّة الّتي تسكن الزّائر من دون استئذان.

فعل الحبّ تترجمه الأخت حنّة في كلّ لحظة من لحظات النّهار، في مكان بات منزلها وسكّانه عائلتها. "كتير حلوين الختياريّة، نفسّيتهم حلوة.. ورفقا ما بتتركني!"، تخبر الرّاهبة التّقيّة الّتي قلّت مثيلاتها في زماننا. نعم رفقا حاضرة لتحمل معها الحمل، هي تشعر بوجودها لأنّها تسمع صلواتها وتلبّي فورًا، والأمثلة كثيرة!

هي تستيقظ قبل صياح الدّيك، فتهيّىء المياه السّاخنة من أجل الحمّام. وتسكب لهم القهوة وتقدّم الفطور بيدين تكدّان وتشقيان لأجل سعادة وراحة "أفراد العائلة"، لينطلق يومهم. فالأخت حنّة تهتمّ بصحّتهم وغذائهم ولكن أيضًا بتنشيطهم روحيًّا، فهم يتلون معًا مسبحة الورديّة يوميًّا وفي قلوبهم نوايا عديدة معلنة ومضمرة، ويحتفلون بالذّبيحة الإلهيّة أيّام السّبت والإثنين والأربعاء ويشاركون في نشاطات الدّير واحتفالاته.

أمّا في المناسبات الخاصّة، كعيد الحبّ، لا تنسى الأخت التّقيّة أحبّاءها، فتنظّم لهم لقاءات احتفاليّة يتوّجها القدّاس الإلهيّ، وتتخلّلها قراءات في الإنجيل وألعاب ترفيهيّة ومسابقات وأغانٍ ورقص...

"الله يوفقك ويسلّم ديّاتك" عباراتان تزرعان في قلب الخادمة الأمينة انطباعًا غريبًا، وشعورًا لا تدركه سوى الابنة عند رضى والديها عنها.

هذا الحبّ ليس من طرف واحد بل هم يبادلونها الشّعور نفسه، شعور لا ينفكّ المسنّون يظهرونه امتنانًا وحبًّا. فماري التّسعينيّة لا تتردّد في تأكيد أنّ "أوّل مسبحة على نيّة الأخت حنّة... بيوجعني قلبي عليها قد ما بتركض!" ربّما خبراتهم الطّويلة في هذه الحياة أمدّتهم بمعرفة عميقة بالحبّ الصّادق النّابع من أعماق القلب. فماري "القديرة" ربّة المنزل والأمّ والجدّة عاشت قصّة حبّ لا تزال تتذكّر فصولها ولا تزال أمينة لها ووفيّة لزوجها رغم غيابه الجسديّ. أمّا جورجيت فعندما تفتح لها سيرة الحبّ، تكرّ سبحة ذكريات من أيّام حلوة وسعيدة بخاصّة، مع زوجها الّذي تروي عنه بفخر "عشنا أحلى قصّة حبّ أثمرت بنتًا وصبيًّا.. ولكن فقدتو بكّير بسبب الحرب.. بسّ كلّ مرّة بتذكّرو بحسّ بوجودو وبصير بعالم تاني".

طانيوس وتريز ثنائيّ تدمع العين لدى رؤيتهما، عاشا الحياة في سرّائها وضرّائها، وهما يكملانها في هذا الدّار، فيقول طانيوس: "حبّيت كتير بحياتي ويلي حبّيتا أكتر شي تزوّجتا" في حين تكشف تريز عن سرّ هذا الحبّ: "الاحترام والمعاملة الحلوة زادو حبّي إلو."

بالنّسبة إليهم، الحبّ ليس فقط العشق بين رجل وامرأة، بل هو أيضًا حبّ الأولاد لأهلهم، فسعاد أمضت حياتها تخدم والديها وإخوتها بدون تذمّر، فحصدت رضى الله ورضى الوالدين. وماري بعد أن انتهت من تأمين عيشة كريمة لوالديها حتّى الرّمق الأخير، تابعت حياتها في رسالة حبّ سامية أيضًا: التّعليم، فصبّت كلّ ما فيها من طاقة لأجل تربية جيل مثقّف متمرّس بالعلم والمعرفة.

كثيرة هي حكاياتهم، إن سردناها كلّها لملأنا صفحات كتب ومجلّدات، عنوانها مشترك: الحبّ. ولكن جلسة واحدة كافية لتغرف من نبع وفير ستشتاق قريبًا أن تعود إليه وتستقي منه عبرًا تثبّتك أمام عواصف الحياة. وبين الضّحك واللّعب، والغناء والرّقص، جولات مؤثّرة ترافقنا بها في أرجاء بيت الرّاحة في جربتا، بالأحرى في رحاب هذا البيت الدّافئ الرّابض بعطر مقدّس تنفحه رفقا من ضريحها المجاور؛ ورغبة في البقاء لوقت أطول مع "حبّة البركة" الأخت حنّة الّتي زُرعت في المكان المناسب لتكون رفيقة 47 عجوزًا علّقت صورهم على جدران الدّار ليقدّموا لكلّ من زارهم أمثولة في الحبّ والحياة. كلّ عيد حبّ وأنتم بخير... يُتبع!