ثقافة ومجتمع
28 حزيران 2016, 12:45

بالصور.. أحفاد وادي الصليب يحيون تاريخهم

غلوريا بو خليل
في يوم مشمس جميل في وادي الصليب، وبعد أن تشارك أبناء رعية مار سمعان القداس الإلهي، تحلّقوا في ساحة كنيسة الضيعة القديمة حيث كان يلتقي أجدادهم في أفراحهم وأتراحهم، ليستمعوا إلى كلمة أحد أبنائهم، جورج ابي راشد، وهو توبوغراف ومتابع لأعمال وتاريخ ومستقبل الوادي، فأطلعنا على تاريخ جذورنا قائلاً:

 

"نحن شباب من القليعات بصدد جمع معلومات عن الوادي بالتعاون مع البلدية الجديدة لتثبيت التاريخ والحدود الجغرافية لهذا الوادي ولإحياء هذا الحي التاريخي والتراثي المهم والذي هو ركن مهم من ضيعتنا، ونحاول أن نعود الى التاريخ لنكتبه، وذلك من خلال وثائق مكتوبة وشهادات كبار الضيعة لنصل الى الحقيقة الماضية لنكتبها ويطّلع عليها كل أبناء الضيعة."

وتابع: "لم نعرف بعد معنى التسمية الحقيقية لوادي الصليب، هناك ثلاث روايات غير موثوقة: الأولى نسبةً لراهب مرّ بالوادي وقعت منه صليبه بحث عنه كثيراً من دون جدوى. الثانية نسبة لصخرة يطلق عليها اسم حجر الصليب موجودة في المقلب الآخر للوادي منقوش عليها صليب، إلا أننا نحن نعرف أن ذاك الصليب هو علامة حدود بين ضيعتين. والتسمية الثالثة، وهي الأقرب الى الواقع، إذ أن هذا الوادي عانى أبناؤه الكثير من المآسي والحروب والمجاعة والآلام، توفّي الكثير من أبنائه واستشهدوا لدرجة أنه قيل عنهم إنهم حملوا آلامهم وصليبهم، ولأجل هذا السبب أًطلق عليه اسم "وادي الصليب". إلا أننا لم نقتنع كثيراً بهذه الأسباب ونحن نحاول أن نعرف أصل التسمية."

وأوضح قائلاً: "وادي الصليب لم يكن وادياً في الماضي، إذا أردنا أن نتحدّث عنه علينا أن نعود الى 2000 سنة خلت. الطريق التي سلكناها الى هنا كانت في عهد أدريان الذي حكم لغاية عام 138 بعد الميلاد، ممرّاً للمشاة وللخيّالة للرومان الّذين كان لهم قلعتان في هذا الجبل ينطلقون اليهما من جونية نحو جرود غوسطا وقلعة فقرا. وكانوا يسلكون الطريق من الساحل ليصلوا الى عجلتون ومنها الى معبرين أحدهما شرقي شمالي باتّجاه عشقوت حيث لا نزال نرى لليوم بقايا من الدرج الروماني، فشمالي غربي نزولاً باتّجاه غوسطا حيث قلعتهم الأساسية. أمّا المسلك الثاني فيقودهم شرقاً من عجلتون الى وادي الصليب، ونقدّر أنه كان يمر في "مراح المير"، الى الرومية ومنه الى الوادي فـ"الياتون" عبر النهر، ثم كانوا يصعدون الى كفرذبيان ليصلوا الى قلعة فقرا، الموقع الأساسي الثاني للرومان. إشارة إلى أنّ جسر الحجر لم يكن له وجود في ذلك الوقت، فهو يعود إلى عهد العثمانيّين وعمره حوالي 300 سنة فقط."

الطريق التي سلكناها من "الياتون" الى ساحة الضيعة القديمة تظهر "الرصف الروماني"، طولها 1635 م ما يجعله ثاني أطول "درب روماني" في لبنان كاد أن يكون الأوّل لولا ردمه وطمره، فيأتي بالتّرتيب الثّاني بعد جبل موسى.

هذا وكان الأجداد يسلكون هذا الدّرب بين العامين 1600 و1914 قاصدين الوادي للتبضع وشراء الفواكه والخضار والقمح وغيرها.

لكن في العام 1914، وبسبب الحرب والجوع وعدم وفرة المياه والجفاف، تفشت الأمراض فهاجر أجدادنا متشرمذين، ليعود عدد قليل منهم عام 1925 ويزرعوا الأرض من جديد قبل أن يركبوا حافلة التّهجير مجدّداً- آخرها كان عام 1957-  وينتقلوا من الوادي إلى مسكنهم الجديد: القليعات الحالية.

منذ حوالي 10 سنوات، أوضح أبي راشد أنّ "18 بلدية في كسروان اجتمعت برعاية اتحاد البلديات وبدعم من الاتحاد الأوروبي بمبلغ كبير من المال وقررت ترميم الوادي وإعادته كما في الماضي فيعصر أجدادنا "La vie a l’ancienne". استطاعت البلديّات الى اليوم ترميم ثلاثة منازل وأعادوا بناء طرقات المشاة فنظفوها وحدّدوا معالمها، أمّا شبيبة المنطقة ونحن ساهمنا برفع طرقاتها توبوغرافياً وسجلناها على GPS وأصبحت متصلة بالـ Satellite. وربطنا الوادي بدرب الجبل الذي يمرّ من عكار الى مرجعيون بطول 500 كلم وهو الدرب الوحيد الموجود على الخريطة السياحية، ومنه تتشعّب طريق فرعيّة تربط قلعة كفرذبيان بالوادي.

وبعد هذا الشرح الدقيق والمفصّل، كان لموقع "نورنيوز" حديث عن تاريخ الوادي مع السيد جريس القاعي البالغ من العمر 87 عاماً هاجر جدّه عام 1914 مع عائلته الى زحلة وعادوا إليه مع مجيء الفرنسيين الى لبنان، لكن عادوا وتركوه وهو في الخامسة من عمره فكانوا بذلك آخر من غادر الوادي عام 1957. كبُر جريس وأصبح راعياً، فكان يملك حوالي 300 راس ماعز وغنم، يضمن الأرض من الوقف ليرعى خرافه فيه. هو محب للطبيعة يطيب له الغناء والعزف على الناي في ارجائها.

عرف جريس الوادي في عزّ عطائه، فكان مصدر الكثير من الخيرات، مشهور بزرعه الخصب للّيمون والزيتون والجوز واللوز والرمان والخروب والتوت، وتربية دود القز لصناعة الحرير وهو أحد أهم مواسمه، كما اشتهر بمعاصر الزيت والدبس ومطاحن القمح والبرغل.

ومن أبرز الذّكريات الّتي تقاسمها العم جريس معنا كانت تلك الّتي تحيي اللّحمة القرويّة، بفكان سكّان الوادي يتشاركون المأكل والمشرب ويذبحون كل اسبوع خروفاً مداورةً ويتقاسمونه، ويتعاونون للمحافظة على الطبيعة والأشجار بصورة خاصة. لكنّ ابن الوادي حزين اليوم بسبب العشوائية الحاصلة في الطبيعة في أيامنا، فأطلق عبر "نورنيوز" نصيحته لجيل اليوم لأجل تشحيل الأشجار والعناية بها.

ومن أيّام الخير، شاركنا العم جريس كذلك بإحدى ذكرياته الّتي حفظت صورة وصوت الكبير وديع الصّافي، إذ كان يقصد أن يرعى قطيعه قرب منزل العملاق الرّاحل على التلة ليسمعه يغني على شرفة منزله، وكم كان يفرح عندما يتجاذبان أطراف الحديث!

مع تلك الحكايات المليئة بالحنين والفرح، ودّع موقع "نورنيوز" المشاركين في الرّحلة مزوّداً بتاريخ وادٍ جديد في لبنان يستحقّ أن يُضاء عليه، متمنّياً مع القيّمين عليه أن يحظى باهتمام الهيئات الرّسميّة حفاظاً على التّراث الثّمين في القليعات.

 

 الصور بعدسة السيد جورج ابي راشد