دينيّة
18 آب 2019, 13:00

المطران عبدالله قراعلي.. قدّيس قريبًا؟!

ريتا كرم
هو راهب متفانٍ ومحبّ، معطاء ومندفع. أسقف مصلح عمل بلا كلل ولا تعب من أجل إغناء الرّهبانيّة اللّبنانيّة الّتي شارك في تأسيسها، وإغناء الوطن بالتّشريع والقوانين والمؤلّفات الرّوحيّة الطّقسيّة. هو المطران عبدالله قراعلي المولود في حلب السّوريّة في 8 أيلول/ سبتمبر 1672 في أسرة مارونيّة غنيّة وتقيّة، والمنتقل إلى رحاب الآب في زوق مصبح اللّبنانيّة في 6 ك2/ يناير 1742.

 

لم يغره لا العلم ولا المال ولا الجاه، بل نمت في داخله رغبة في عيش العبادة والفضيلة والوحدة، فبحث عن وجهة يحقّق فيها دعوة الله له. ووقع الاختيار على لبنان "موطن الرّهبان العبّاد والمتوحّدين آنذاك في الشّرق". تبع وصديقه يوسف البتن رفيقهما جبرايل حوّا، سنة 1694، والتقوا في زغرتا في عيد الجسد الإلهيّ، وقصدوا الكرسيّ البطريركيّ في قنّوبين عارضين رغبتهم على البطريرك أسطفان الدّويهي في إعداد قانون رهبانيّ وإنشاء نمط حياة لهم ولمن يأتي من بعدهم.

بعد إقناعه، وبعد جولاتهم على عدد من الأديرة، سكنوا دير مارت مورا في إهدن نزولاً عند رغبة البطريرك ليختبروا الطّريقة الرّهبانيّة الّتي يصبون إليها والّتي لم يجدوها في أديار لبنان القديمة. فشرعوا في بناء الدّير المهدوم وسكنوه وألبسهم البطريرك الإسكيم الرّهبانيّ في ت2/ نوفمبر 1695، واتّخذ عبد الأحد إسم عبدالله، وأقاموا القسّ جبرايل حوّا رئيسًا عليهم، فشكّلوا بذلك نواة رهبانيّة جديدة دُعيت "حلبيّة" فـ"لبنانيّة" تفرّعت منها فيما بعد الرّهبانيّتان اللّبنانيّة والمريميّة.

في عيد الصّليب سنة 1696، ترقّى إلى درجة الكهنوت لينضمّ في السّنة الّتي تلتها إلى الأب جبرايل حوّا في دير مار أليشاع- بشرّي- لإعداد القانون وترتيبه في 22 بابًا حدّدا فيه شكل إدارة الرّهبانيّة الجديدة ومفهوم النّذور وسلوك الرّهبان، وقرّرا إقامة 4 مدبّرين يختارهم أعضاء الرّهبانيّة ليشتركوا مع الرّئيس العامّ في تدبيرها وفي تعيين رؤساء الأديار الّذين تدوم ولايتهم 3 سنوات ينعقد في نهايتها المجمع العامّ في العاشر من ت2/ نوفمبر في ذكرى تأسيس الرّهبانيّة.

انعقد المجمع العام في هذا التّاريخ من العام 1896، فثبّت جبرايل حوّا في الرّئاسة العامّة وأقام 4 مدبّرين من بينهم: عبدالله قراعلي، جبرايل فرحات ويوسف البتن. غير أنّ خلافًا نشب بين حوّا وقراعلي حول "معنى سيرة الرّهبنة" و"مفهوم وظيفة المدبّرين". ففي حين أراد الرّئيس العامّ حوّا أن تكون الرّهبانيّة للوعظ والتّبشير ورئاستها مطلقة ومؤبّدة، رأى الأب قراعلي وغالبيّة الرّهبان ضرورة في أن تكون نسكيّة، تأمّليّة، لا تتعاطى أعمال الرّسالة إلّا عند الحاجة، وتكون رئاستها مؤقّتة مع الإبقاء على وظيفة المدبّرين. أمّا الحلّ فكان بتنحية جبرايل حوّا عن الرّئاسة العامّة وإسنادها إلى عبدالله قراعلي بقرار من الرّهبان الّذين عقدوا مجمعًا عامًّا، قبل أوانه سنة 1700، من دون استشارة أيّ منهما. لكنّ البطريرك قسّم الرّهبانيّة بين الرّئيسين، وخُيّر الرّهبان بين الاثنين، وبقي الأب قراعلي في دير مار أليشاع يرعى الرّهبانيّة، وحظي بموافقة الدّويهي من أجل تثبيت القوانين في 18 حزيران من العام نفسه، بعد أن اختصرها في 15 بابًا، وأبرز رهبانه الـ12 نذورهم بحسب القانون الجديد.

عام 1816، وصل أمر من المجمع المقدّس بإبطال قانون الرّهبنة الجديدة بحجّة أنّه وُضع من دون إذن الرّؤساء، فكتب الأب عبدالله قراعلي جوابًا إلى روما مدعومًا بصورة عن التّثبيت، وعرض القضيّة على البطريرك يعقوب عوّاد مدافعًا عنها، وقد أصرّ الأخير على ترقيته إلى الأسقفيّة كشرط للدّفاع عنهم في روما، فقبل وسيم في 17 أيلول/ سبتمبر 1816 مطرانًا على أبرشيّة بيروت، وخلفه في رئاسة الرّهبانيّة العامّة القسّ جبرايل فرحات. وبعد مماطلة البطريرك عوّاد في الكتابة إلى روما، كتب المطران قراعلي منفردًا إلى الكرسيّ الرّسوليّ واسترجع قرار الإلغاء، وتمّ تثبيت القانون من الفاتيكان بتوقيع  من البابا أكليمنضوس الـ12 في 31 آذار/ مارس 1732، فأصبحت مذّاك مرتبطة مباشرة بالكرسيّ الرّسوليّ.

انتشرت الرّهبانيّة ونمت وانضمّ إليها شبّان من لبنان وخارجه، من مختلف الطّوائف الكاثوليكيّة في الشّرق. وثبتت في طريق الكمال مستقية أصولها من مؤسّسها الّذي كان إنجيلاً حيًّا وقدوة لرهبانه في التّقشّف والصّوم والإماتات والصّلاة. عاش محبوبًا مفعمًا من حكمة الله، وراعيًا صالحًا ثابتًا في الحقّ، حاصدًا ثقة المسيحيّين والمسلمين والدّروز، وتاركًا إرثًا روحيًّا طقسيًّا وقانونيًّا كبيرًا.

ولد المطران عبدالله قراعلي في السّماء، بليلة الدّنح في 6 ك2/ يناير 1742، لتنمو اليوم حبّة الخردل الّتي زرعها في أرض لبنان وتزهر أديارًا ومناسك ومعابد ومدارس وجامعات ومراكز داخل الوطن وخارجه، وليثمر من رهبانيّته قدّيسون وحبساء عاشوا مطبّقين قوانين الرّهبانيّة بطاعة وأمانة.

واليوم، تنتظر الرّهبانيّة المارونيّة بقسميها أن ينضمّ المطران الجليل إلى قدّيسي لبنان، هو الّذي عُرف بقوّة حدسه وبصيرته وحفلت حياته بالشّفاءات والأعاجيب، فتسطع من جديد سماء لبنان قداسة ببركة فاتيكانيّة.