القدّيس لاوون بابا رومية
أمّا البابا لاوون الّذي دخل غمار الحياة الإكليريكيَّة منذ مطلع شبابه، فمولودٌ في أواخر القرن الرّابع الميلاديّ، في رومية من عائلةٍ توسكانيَّة الأصل.
ولمّا صار رئيس شمامسةِ رومية، عالج قضايا زمانه على اختلافها، خاصَّةً تلك الّتي كانت تُعنى بالعقائد وصونها. لاحقًا، وكخلفٍ للأسقف سيليستين، سيم غيابيًّا أسقفًا على رومية، إذ كان في مهمَّةٍ دبلوماسيَّةٍ في ما عرف سابقًا ببلاد الغال، أيّ في فرنسا.
وقد تميَّزت مسيرته الأسقفيَّة بحسناتٍ عديدةٍ، كان أبرزها الحفاظ على العقائد ضدَّ الهرطقات والمهرطقين. كما سعى دومًا إلى بثِّ السَّلام في الكنيسة وقمع الجدليّات الخلافيَّة. كما اعتُمدَ عليه في كثيرٍ من المواقف بين الدُّول والشُّعوب، كوسيطٍ لتقريب وجهات النَّظر والإحالة دون وقوع الحروب.
لقد عاش البابا لاوون في زمن كثُرت فيه التَّحديات العسكريَّة والسّياسيَّة والدّينيَّة والفكريَّة، وعلى مستوى النِّظام الكنسيّ والحياة الرّهبانيَّة والرَّعويَّة والعلاقة مع كنيسة الشَّرق. وكان غالبًا ما ينجح في تخطّيها بفضل حكمته وطباعه، الّتي كانت تتميَّز بالصَّرامة والرَّأفة في آنٍ.
له إنجازاتٌ عديدةٌ، أبرزها السَّعي للتَّجديد الإكليريكيّ وتوطيد النِّظام في كنائس أفريقيا وصقلية بعد هجمات قبائل الفندال (هي قبائل جرمانيَّة شرقيَّة تتَّبع المذهب الآريوسيّ، وكانوا مُضطَهَدين من قبل الكنيسة المؤمنة بعقيدة الثّالوث، فاجتمعوا ضدَّ حكم الرُّوم، وقاموا بحروبٍ عدَّةٍ معهم). كما دعم أسقف سالونيك، ومنع انفصال كنيسة الغال وتصدّى للهرطقات وأبرزها المانويَّة والبيلاجيَّة. والجدير ذكره هنا، أنَّه هو من أطلق على مجمع أفسس المنعقد سنة 449 م. صفة اللّصوصيَّة، بسبب كثرة الهرطقات الّتي حواها. هذا واهتمَّ بالطُّقوس الكنسيَّة ووطَّد قوامها، كما اهتمَّ برعاية الشَّعب والكهنة، من خلال أدائه وطريقة عيشه وعظاته وتعاليمه. إضافة إلى انشغاله ببناء الكنائس وترتيبها.
وكما ذكرنا فقد عُرف البابا لاوون بالوساطة بين الشُّعوب، فمثلًا عندما اجتاحت قبائل الهانس (هم شعب غير مسيحيّ بقيادة أتيلا عاش في السَّهل المجريّ العظيم واستولى في النِّهاية على مساحةٍ كبيرةٍ من أوروبّا الوسطى)، كلّا من ألمانيا وبلاد الغال وعبرت الالب ونهبت ميلانو وهدَّدت رومية، كُلِّفَ من الإمبراطور الرُّوميّ ومجلس الشُّيوخ والشَّعب، بأن يحلّ الأزمة فيكفّ الغزاة يدهم عن المدينة.
وهذا ما حصل بالفعل، فقد خرج مواجهًا إيّاهم بلباسه الحبريّ، وخَلفَهُ موكبٌ من الكهنة والشَّمامسة وهم يردّدون الأناشيد الكنسيَّة، فما كان من القائد الغازي الذي كان يتوقَّع جيشًا في مواجهته، إلّا التَّراجع عن نيَّته في القتال أمام هذا المنظر، مكتفيًا بفرض الجزية على المدينة.
أيضًا بعد سنواتٍ وفي مواجهة الفاندال، قام لاوون بنفس الوساطة مقنعًا الغزاة بالاكتفاء بالنَّهب وترك السّكان من دون الفتك بهم.
هكذا قضى البابا لاوون حياته، بفرض السَّلام، وببناء الحجر والبشر، وبالتَّعليم والوعظ والحفاظ على العقائد، لحين رقاده بالرّبّ عام 461 م. وقد ترك خلفه 143 رسالةً و97 عظةً ونصوصًا ليتورجيَّة عديدةً.