دينيّة
17 كانون الثاني 2025, 07:00

القدّيس أنطونيوس الكبير... ملاك الصّحراء

أرزة البيطار
"رأيت فخاخ العدوِّ في الأرض لامعةً، فقلت في نفسي من ينجو منها ؟ فأتاني صوتٌ من السَّماء يقول: المتواضع".

أنطونيوس الكبير... كوكب البرّيَّة، ملاك الصَّحراء وأبو الرُّهبان، الّذي ولد في صعيد مصر في أواسط القرن الثَّالث في كنف عائلةٍ مسيحيَّةٍ ميسورة الحال، تركت له بعد رقادها المُبكر ميراثًا كبيرًا.

لم تكن سطوة الموت على القدّيس، دافعًا للحزن كما يحصل مع معظم النَّاس، إنِّما محفِّزًا للبحث عن الحياة الأبديَّة. فثابر أنطونيوس على التَّقدُّم الرُّوحيّ وحفظ كلمة الله. وفي أحد الأيّام، سمع في كلام الرَّبّ في الإنجيل، دعوةً لأن يتحرَّر من كلِّ سطوةٍ ماديَّةٍ. 

"إن أردتَ أن تكون كاملًا، فَاذهَبْ وَبِعْ أملاكَكَ وأَعطِ الفُقَراء، فيكونَ لك كنزٌ في السّماء، وتعالَ اتبَعني" (مت ٢١:١٩)

لم ينتظر القدِّيس طويلًا ليلبِّي دعوة الرَّبّ، فأعطى شقيقته حصَّتها وانصرف ليوزِّع ما لديه على المحتاجين، قبل أن ينعزل لصقل حياته الرّوحيَّة وتغذيتها بكلام الرَّبّ.

إستقرَّ أوَّلًا على ضفاف النّيل، ثمَّ قصد عمق البريَّة بحثًا عن التَّوحُّد والتَّنسُّك.

كان منسكُه مدرسةً للرُّوحانيّات وأرضًا خصبةً لكلمة الله، وكان لا يفارقه إلّا لواجبٍ دينيٍّ أو إنسانيّ، ويعود إليه مسرعًا دون الإلتفات إلى أهواءِ العالم ومغرياته، باحثًا عن الاتّحادِ بخالقه وفاديه وحسب.

تعلَّم النُّسك من أسلافه إلّا أنَّه عُرف بالذّات بأبِ الرُّهبان، إذ اجتذب حوله العديد منهم. وكان يعلِّمهم ويرقِّيهم بالرُّوح، حاثًّا إيّاهم على التَّفكير بالآخرة والأبديَّة وعلى الاستعداد الدَّائم والجهوزيَّة الرُّوحيَّة، لمغادرة هذه الحياة في أيّ وقتٍ. "فَاسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ الْيَوْمَ وَلاَ السَّاعَةَ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا ابْنُ الإِنْسَانِ" (مت 25: 13)

وعلى إثر ذلك، اعتبرته الكنيسة من مؤسِّسي الحياة الرّهبانيّة الّذي جمع بين التَّوحُّد وحياة الجماعة.
وعلى الرَّغم من ذلك، فقد جرَّبه الشِّرير مرَّاتٍ عدَّة إلّا أنَّه لم يقوَ عليه بسبب شِدَّة إيمانه وثباته، وبفضل نعمة الله التي كانت ترشده إلى الفضائل وأوَّلها التَّواضع كسبيلٍ للخلاص.

وفي حين أنَّه لم يكن مهتمًّا ببناء علاقاتٍ سياسيَّةٍ مع الحكّام والملوك، وكان يهرب من الأضواء، كان هاجسه وشاغله الوحيد دعم الكنيسة وتشديد الشَّعب، خاصَّةً في ظلِّ الاضطهادات، إذ كان ينزل بينهم ومعهم إلى الشَّوارع للصَّلاة. 

وقد ساند القدِّيس أثناسيوس الكبير مُلبِّيًا دعوته عام 325 م. كما يذكر المؤرِّخون، للحدِّ من هرطقة آريوس الّتي تتنكَّر لألوهة المسيح. ومن أقواله حينها: "الذي يتكلّمون عنه أنّه ليس إلهًا، هو غيرُ المسيحِ الذي أنا أعرفُه ويعرفُني ويَعرفُ كلَّ واحدٍ منّا. فيسوعُ هو إلهٌ تامٌّ وإنسانٌ تامّ". وأيضًا: "الكلام عن الرّبّ يسوع المسيح يأتي من القلب المجبول بالصَّلاة، وليس مِن أفكارٍ عقليّةٍ محضةٍ، وفلسفاتٍ واستنتاجاتٍ وتحاليل".

وقد وصف الباحثون حينها زيارته بالزِّلزال الّذي هزَّ الأرض، إذ لم تكن زيارةً عاديَّةً أو خاطفةً وغير معلنةٍ، فقد احتشد النَّاس من حوله مُستقبلين إيَّاه بالتَّهليل حتّى أنَّهم قالوا فيه: "النُّور يتقدّمُه لِيَشُقَّ له طريقه".

وبعد عمرٍ ناهزَ فيه المئة والخمسَ سنواتٍ، قضاه بالجهاد في سبيل الملكوت، رقد القدّيس أنطونيوس الكبير بالرَّبّ عام ٣٥٦م. تاركًا خلفه إرثًا رهبانيًّا ومدرسةً نسكيَّةً ما زال العالم ينهل من معارفها حتّى اليوم.