الحنين إلى الجذور
"من يجول في بلاد الاغتراب يلاحظ أنّ اللبنانيّين يعيشون حياة هانئة ومزدهرة لأنّهم ضمنوا مستقبلهم ومستقبل أولادهم وحصلوا على جنسيّة ثانية فشعروا بالاطمئنان على الأخصّ بالنسبة إلى حرّيّة سفرهم أينما شاؤوا. لكن، على الرغم من هذه الامتيازات، فإنّ الحسرة والمرارة لم تفارقان قلوبهم بسبب بعدهم عن وطنهم الأمّ وعن قراهم وأراضيهم لا بل إنّهم ينظرون بقلق كبير إلى مستقبل وطنهم ومصيره. وما يحزّ في نفوسهم تركُهم لأهلهم وأجدادهم وأحبّائهم وحيدين من دون أيّ أمل في العودة إليهم.
حقّق اللبنانيّون المهاجرون، في بلاد الاغتراب، ما لم يتمكّنوا من تحقيقه في لبنان. وفي هذا السياق روى لي أحد اللبنانيّين عندما كنت قنصلًا عامًّا في ملبورن- أستراليا قصّة مؤثّرة لمغادرته وطنه وذلك لمّا استفسرت منه عن سبب هجرته.
أجاب المهاجر اللبنانيّ قائلًا إنّه غادر لبنان بعد أن خسر عمله ولم يتمكّن من تأمين موارد رزق عائلته فوصل إلى أستراليا برفقة ستّة أشخاص من أفراد عائلته وبدأ يعمل في تكنيس الغبار في أحد مصانع ملبورن للسيّارات. وبعد مرور سنتين على عمله استطاع شراء منزل لائق وبعد سنوات عدّة كَبُرَ أولاده فعملوا في أحد المطاعم لفترة، ما شجّعهم على شراء مطعم صغير ثمّ ما لبثوا أن توسّعوا وها هم اليوم يملكون مطعمًا كبيرًا وسط ملبورن يبلغ حاليًّا مدخوله الأسبوعيّ مئة ألف دولار أستراليّ.
وهكذا يتّضح لنا أنّ اللبنانيين هاجروا إلى أستراليا وإلى غيرها من البلدان لأنّ فرص العمل ووسائل كسب العيش متيسّرة والمجالات متوافرة للجميع لتحقيق طموحهم من دون أيّ واسطة أو فضل لأحد عليهم.
ولكنّ اللبنانيّين حافظوا على محبّتهم لوطنهم الأصل وهم يتمنّون بل يحلمون بالعودة إليه وبزيارته " فالوطن هو هبة من الربّ...
وتجب الإشارة هنا إلى أنّ اللبنانيّين في بلاد الاغتراب واظبوا على الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم فأسّسوا النوادي بأسماء قراهم واحتفلوا
مقيمين المآدب الغنيّة بالمأكولات اللبنانيّة وأنشأوا الجمعيّات اللبنانيّة التي ساعدت الطلّاب في لبنان كما تداعوا إلى إرسال المساعدات إلى أهاليهم وأقاربهم المقيمين في لبنان كلّما دعت الحاجة، وأطلقوا اسم الأرز على العديد من مؤسّساتهم التجاريّة.
وحافظ اللبنانيّون في بلاد المهجر على تراثهم اللبنانيّ فتضمّنت حفلاتهم ومناسباتهم الأغنية الفلكلوريّة والدبكة اللبنانيّتين وكثيرًا ما استشهدوا بكلماتٍ لمُبدعين من وطنهم الأصل. وأنوّه أيضًا بسيّدة لبنانيّة التقيتها في أستراليا وأخبرتني قصّة نجاحها هناك...وختمت حديثها بالقول إنّها ترغب بل تتمنّى أن تموت في لبنان. فتأثّرت كثيرًا بقلقها على لبنان وبالتزامها العميق بجذورها ومشاعرها الوطنيّة الصادقة تجاه وطنها الأمّ.
ختامًا يمكن القول إنّ اللبنانيّين في الاغتراب ولئن كانوا سعداء هناك لكنّهم يعانون مرارةَ البُعد عن لبنان الذي يحملون همّه وعن قراهم وأرضهم وأهلهم، وذكريات طفولتهم، ويستوطن الحزن قلوبهم لأن لا أمل لهم ولأولادهم بالعودة إلى الجذور.