ثقافة ومجتمع
20 تشرين الثاني 2024, 10:00

الأب

تيلي لوميار/ نورسات
بقلم الأب الياس كرم كاهن رعايا الشويفات، بسابا ودير قوبل للروم الأرثوذكس

 

يمكن لأي رجل أن يكون زوجًا، ولكن أن يكون أبًا فهذا يتطلّب قلبًا عظيمًا وروحًا تتّسع لحمل العالم. الأب هو النور الذي يضيء عتمة الأيّام، هو النبع الذي يسقي أرواحنا حبًّا ودفئًا لا ينضب. مهما اجتهدنا في وصفه، تبقى الكلمات عاجزة عن التعبير عن حجم محبّته ومكانته في قلوبنا، فالأحرف تقف خجولة أمام ما يحمله الأب من عطاء وتضحية. الأب ليس مجرّد حضور عابر في حياة عائلته، بل هو ركيزة الأمان وصوت الحكمة، وملجأ نهرع إليه حين تعصف بنا هموم الحياة.

على المستوى الشخصيّ، لم تجسر السنوات الطويلة التي مرّت على رحيلك يا أبي أن تُنقص من محبّتي أو تقديري لك. ما زال الشوق إليك يكبر في قلبي يومًا بعد يوم، ما زلتُ أراك كالبحر الواسع الذي يحتضن وجعي ويخفف عنّي آلامي. كم كانت كلمتك تطمئِن روحي وتمحو عنّي غبار الأيّام الشاقّة، وتفتح لي أبواب الأمل بغدٍ أفضل. في كلّ لحظة أتذكّر كيف كانت الحياة معك صفحات تُملأ بكلمات العزاء والقوّة والتشجيع، فتبدو كلّ محنة أقلّ وطأة، وكلّ حزن أقلّ قسوة.

منذ أن وعيَت على الحرب اللبنانيّة في ثمانينيّات القرن الماضي، كنتَ أنت الملاذ الذي يجعلني أشعر بالسلام وسط الدمار، ويمنحني الأمان وسط الخوف. وحين أعيش اليوم هول الرعب المستجدّ والغارات التي تمزّق السكون، تنهض صورتك أمامي شامخة، فتبعث فيّ من جديد شعور الأمان الذي كنت تمنحني إيّاه بملء الحضور.

لم أدرك في صغري مغزى قول والدتي: "ابتسموا في وجه أبيكم عند عودته، فالعالم في الخارج موحش ويحطّم الآباء". اليوم أدركتُ حكمتها العميقة، وأثني على تلك الروح العظيمة التي كانت تزرع فينا احترامك وتوقيرك. هكذا تُبنى البيوت، وهكذا تُشيَّد القلاع؛ بحبّ الأمّهات وحكمة الآباء، بالتقدير المتبادل الذي يجعل من الأسرة حضنًا دافئًا يحتضن الجميع.

لا يعي الرجل قدر أبيه إلّا حين يصبح أبًا، وهذه حقيقة لا يدركها إّلا من خاض تجربة الأبوّة بنفسه. كم هو صعب أن تحمل قلبًا يخفق خوفًا على أبنائك في بلد مثل لبنان أو في منفى الغربة. فالأب هو من يمزج الحنان بالعقل، هو من يحتضن الألم بروحه ويداويه بلمسة من حكمته. الأب هو القلعة التي تتصدّى لعواصف الحياة، والوجود الذي يبعث فينا الأمان الذي لا ينتهي. كم هي عميقة كلمة "أبي"، فهي تهزّ الأرض تحت أقدامنا وتعانق السماء بأمانها.

قد يُتّهم الآباء في شرقنا بالقسوة، إلّا أّن طيبة القلب هي سمتهم، فقد عرفوا واعتقدوا دومًا بالآب السماويّ الذي منه يستمدّون مثالهم. وكما قال الأب الدكتور رامي ونّوس: "وحدها اللغة العربيّة تنفرد بتسميّة الله "آب" بدل أب. هو الأب بامتياز. هو المربّي. هو المعتني بأولاده. وعلى صورة الآب السماويّ يكون الأب الأرضيّ...

في الواقع، معظم الآباء هم أضعف وأرقّ ممّا نتصوّر. وإذا فتّشنا عن الله نراه أبًا ذا قلبِ أمّ، أو أمًّا ذات قلب أبويّ. هكذا الأبوّة والأمومة؛ ليستا توزيع أدوارٍ بل هما انحناء وانعطاف نحو الأولاد".