أغسطينوس... من الكـُفران إلى الإيمان
إزاء هذا الواقع الأليم، وككلّ أمّ، غرقت والدته "مونيكا" في الدّموع طالبة ليلاً نهارًا الخلاص لابنها. فكانت تلحّ عليه بشدّة التّحريض لاعتزال الغواني وكلّ أسباب الفجور وأمّا هو فما كان يعيرها أذنًا صاغية ولا يكترث لأقوالها لأنّها أقوال امرأة. لم تستكن هذه الوالدة إلى أن رأت في إحدى المرّات حلمًا تقف فيه كئيبة على خشبة رمزًا للإيمان، فعزّاها فتى يلمع بهاؤه أمامها ويشعّ الفرح من محيّاه قائلاً: "تعزّي ولا تخافي، فها ولدك هنا وهو معك"، فالتفتت مونيكا وإذا بابنها واقفًا بجانبها على الخشبة، فتأكّدت أنّ الله استجاب دعاءها وأنّ ابن هذه الدّموع من المستحيل أن يهلك.
ولكن قبل أن تثبت خطى أغسطينوس على درب المسيحيّة، ويهدأ بال والدته، تابع بحثه عن الغنى والمجد في روما إلى أن شاءت العناية الإلهيّة أن يلتقي دربه بدرب القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو، بعد أن عُيّن هناك أستاذًا في البيان، فشمله أمبروسيوس بحبّه وحنانه فبادله أغسطينوس المحبّة وأعجب بعظاته. واستمع إلى تعاليمه الرّوحيّة، فانكشف له نور الحقّ وأدرك أنّ الكنيسة هي من الله وحده، وأنّ فيها تتحقّق نبوءات العهد القديم، ويتجلّى الكمال الرّوحيّ، وتظهر المعجزات، وتنتشر بالرّغم ممّا تعانيه من ضيق.
فقرأ بعض الكتب الفلسفيّة الأفلاطونيّة والكتاب المقدّس مرّة جديدة بخاصّة رسائل بولس الرّسول، ولكنّه بقي أسير العادات الشّرّيرة. إلى أن زاره أحد كبار رجال الدّولة المؤمنين بنسيانس فألهمه عبر قصّة ارتداد اثنين من أشراف البلاد كانا قد تعرّفا إلى سيرة القدّيس أنطونيوس فتركا كلّ شيء ليسيرا على خطاه. وهنا اضطرمت نار الغيرة في قلب أغسطينوس ابن الثّانية والثّلاثين عامًا وبكى بمرارة عند أقدام شجرة. فتحوّلت القوّة المحترقة شرًّا إلى قوّة ملتهبة حبًّا. فترك التّدريس ووزّع كلّ أملاكه، وجاهد في سبيل إيمانه، فناهض البدعة المانويّة، واختلى للعبادة والتّأمّل في كلمة الله مدّة ثلاث سنوات وضع خلالها الكثير من المؤلّفات. فحقّق ما كتبه: "أيقظ عقل قلبك وارفع السّاكن في عينيك الباطنتين ليفتح نوافذه ويتأمّل في خليقة الله."
تحوّل أغسطينوس إلى كاهن فأسقف قدّيس شكرت القدّيسة مونيكا الرّبّ عليه قائلة: "طلبت منك القليل القليل، فأعطيتني الكثير الكثير". أحبّ هذا الملفان الفقراء، فكان يبيع أحيانًا ما للكنيسة ويوزّعه عليهم ويحرّر به المسجونين. دحض البدع وردّ الضّالين إلى الإيمان المستقيم. ثابر حتّى النّهاية ليحصد ما زرع بعد انتقاله إلى أحضان الآب في السّادسة والسّبعين من عمره، قائلاً: "إذا كنتم تحبّوني لا تبكوا عليّ".