القديس الشهيد إيليان الحمصي
الكنيسة الأرثوذكسيّةنشأته:
ولد القدّيس إيليان في حمص (القرن الثالث للميلاد)، منحدرًا من عائلة عريقة في الغنى والوجاهة. فوالده كان مستشارًا خاصًا لحاكم المدينة، ومتمتّعًا بمركز مرموق. غير أنّه كان وثنيًّا غيورًا على عبادة الأصنام في زمن سادت فيه الوثنية بتشجيع الإمبراطور الروماني نوميريان، وقامت فيه حملة اضطهادات واسعة ضد المسيحيين في أنحاء الإمبراطورية جميعها طالت مسيحيي مدينة حمص.
تربيته المسيحيّة:
أما القدّيس إيليان فكان قد تربّى على يد مربيّة مسيحيّة أوصت بها والدته الفاضلة فتحلـّى بجميع الفضائل المسيحية، ولم يكن يكترث بمغريات هذا العالم، بل كان يضع كلّ رجائه في يسوع المسيح، ويداوم على الصلاة ويمارس الصوم، ويزور المساجين ويواسيهم مشدّدًا إيمانهم ومقوّيًا عزيمتهم. وكان طبيبًا يعالج المرضى بمحبّة فائقة، ويحثّهم على الإيمان المسيحي شافيًا إياهم جسدًا وروحًا، وناسبًا الشفاء للرّب يسوع.
ذاع صيته:
ذاع صيته فأسرع إليه الناس من كلّ حدب وصوب طالبين الشفاء، مما جعل نار الحسد تشتعل في أطبّاء حمص، فقصدوا أباه يشكون تبشير إيليان بالمسيحيّة وهزأه بآلهتهم الوثنية، ويهدّدون بإيصال الخبر إلى مسامع الإمبراطور. فما كان منه إلا أن قبض على أسقف المدينة سلوان وتلميذه الشماس لوقا والقارئ موكيوس فيما كانوا يبشّرون، فأمر بتعذيبهم والطواف بهم في المدينة لإذلالهم، ثم بإلقائهم في السجن.
في المحاكم:
لدى مثولهم أمام الحاكم أبدى المعترفون الثلاثة تمسّكهم بإيمانهم وعدم مبالاتهم بالتعّذيبات التي تنتظرهم، فأرسلهم إلى صور ليزعزع إيمانهم ولكن عبثًا. أعيدوا إلى حمص ليُلقى بهم طعامًا للحيوانات المفترسة، فكان القدّيس إيليان في مقدّمة مستقبليهم، وعانقهم وقبـّل قيودهم وجاهر بإيمانه.
أرسله أبوه إلى الحاكم لينظر في أمره فطـُرح في السجن. وفيما المطران وتلميذاه في الطريق إلى الملعب حيث الوحوش الضارية تنتظرهم، فرّ إيليان ولحق بهم وأظهر عطفه لهم سائلًا أن يشاركهم في الشهادة ونعيم الفرح.
وحين كانت الحيوانات تفترسهم كان يصلـّي فظهر له ملاك وخاطبه:
«لا تحزن يا إيليان. إن إكليلا ً قد أُعدَّ لك، وستغلب أعدائك. لا تخشَ عذابهم فإني معك».
تهلّل وجه القدّيس وبارك الرّب وصلـّى طالبًا من اللـه أن يقبله ويجعله مُسّتحقًا نوال إكليل الاستشهاد.
القدّيس في العذابات:
بلغ الخبر مسامع أبيه فاستشاط غضبًا وذهب إليه وضربه حتى سال دمه، وأمر الجنود بربطه والطواف به حول المدينة.
وحين أمر بقطع عنقه، سأله الناس أن يتريّث قليلًا على ابنه الوحيد علّ الآلهة تردّ قلبه إلى عبادتها. أعادوه إلى المدينة، لكنّه ما إن اقترب من دار والده حتى أخذ يعترف:
«أنا إيليان المسيحيّ الطبيب المشهور في هذه المدينة. أؤمن بالمسيح الذي أتى لخلاص العالم، وعرّفنا على طريق الحياة ...وأنتم يا أهل حمص آمنوا بهذا الإله العظيم ليعطيكم النعيم في ملكوته السماوي».
عندئذٍ رجمه الوثنيون بالحجارة، وأعيد إلى السجن حيث بقي أحد عشر شهرًا ، واظب فيها على التبشير وشفاء المرضى وتحقيق العجائب.
خشي والده أن يستميل القدّيس إلى معتقداته المسيحية أغلب أهالي المدينة، فتوسل إليه أن يرجع عن إيمانه فأبى، ثم أنذره فرفض القدّيس بحزم والتمس من الحاكم أن يأذن له بالصلاة قبل أن يأمر بقتله فأذِن.
اتّجه القدّيس إلى الشرق وضمّ يديه على صدره بشكل صليب، ورفع عينيه إلى السماء ولفظ الصلاة التالية:
أيها الرب إلهي، مصدر العطف والرأفة،
يامن أرسلت ابنك الوحيد فادياً ومنقذاً للعالم من عبء العذاب الأبدي.
ومع فتحك أحضان محبتك لقبول كل من يأتي إليك. سمحت أن يكون طريق الخلود مملوءاً بالأشواك، لتظهر فضيلة المجاهدين حسناً ويتعلموا الرجولة الصحيحة.
فلا تسمح يا معين الرحمة أن يجد الخوف إلى القلوب سبيلا.
بل تعطّف وامنح الجميع الرجاء الثابت بك.
قد سررتَ يا إلهي أن يكون لك قطيع في هذا البلد الطيب.
ولكنك سمحت لحكمة نجهلها، أن تخترق الذئاب سياجه.
فاعطف بناظرك الرحيم على القطيع المشتّت، واجمع فلوله تحت كنفك فلا يمتهنه كل عابر طريق.
أفِض اللهم على أهالي هذا البلد الجميل أنوار معرفتك ليستضيئوا بهداك.
وأرِهم شيئاً من جمالك السامي وصفاتك الحسنى، ليشغلوا بها عما سواك.
إن قلوب العباد بيديك كجداول مياه، فحوّل ميولهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر.
واسند بيمينك القادرة ضعف التائقين إليك ليرتعوا أنّ شئت. في بحبوبة رضاك. آمين
ختم القدّيس صلاته، فطلب الحاضرون التعجيل بقتله، إلّا أن والده نهاهم عن ذلك طالبًا تعذيبه أوّلًا، فسلّمه إلى الجلادين ليغرزوا المسامير الطوال في رأسه ويديه وقدميه. وفي غمرة الألم أخذ القدّيس يسبح الله ويقول:
«أعطني اللهم القوّة لأتحمّل هذا العذاب، وأغفر لهذه المدينة خطيئة سفك دماء عبيدك الأبرياء»،
ثم أغمي عليه، فتركه الجلّادون وانصرفوا ظنًّا منهم أنّه مات. غير أنّه كان حيًّا، وما أن جمع قواه حتى جرّ نفسه إلى مغارة قديمة، كانت مصنعًا لفخّاري مسيحي، حيث أسلم الروح في السادس من شباط سنة ٢٨٥م.
جاء الفخاري في الصباح إلى عمله فوجد جسد الشهيد ملقى على الأرض. شك أن يكون الوثنيون قد نصبوا له فخًّا فاستولى عليه الفزع وهرب.
إلّا أن إيليان ظهر له في الليل، ساطع الجمال في لباس طبيب، فطمأنه وطلب منه أن ينقل جسده إلى الكنيسة القديمة (التي كانت مكرّسة للرسل وللقدّيسة بربارة).
وهناك تقبّله، بفرحٍ عظيم، المؤمنون المجتمعون سرًّا ودفنوه بإكرام. وكانت رفاته تشفي المرضى وتحقق نتائج متنوعة.
