لبنان
18 تشرين الأول 2024, 10:20

"وقْفُك يا ربّ تحت الحديد والنار": مناجاة للدكتور ميشال عبس

تيلي لوميار/ نورسات
ناجى الدكتور ميشال عبس، أمين عامّ مجلس كنائس الشرق الأوسط الله متحدّثًا إليه مطوّلًا عن وجع لبنان والشرق الأنطاكيّ، وليمكن للقارئ أن يرى في ظالمي لبنان والشرق كلّ من لم يعمل من أجل خيره. أتت هذه المناجاة في أمسية باسم "عينك عا وطنّا" أقيم في دير يسوع الملك في ذوق مصبح، عن موقع مجلس كنائس الشرق الأوسط.

 

"أرضه الجميلة التي غرستَ فيها أرزَك، لم يرُق اخضرارُها لممتهني اليباس، فيجهدون لتحويلها إلى حطب الحقد. جبلك المقدّس الجميل الذي غطّيطه باللبان، فكان قبلة أنظار العالم، لم يرتح قاتلو الجمال لبياض ثلجه، فأمطروه حقدًا قاتمًا. موئل الحرّيّات الذي يلجأ إليه كلّ مضطهَد ومظلوم، جعلوا منه سجنًا كبيرًا. منجم الحرف، مدرسة الشرق، وجامعته، ومشفاه، يمعن فيه البرابرة تهشيمًا وتدميرًا. نعم يا مالك الملْك. أيدي الكراهيةِ تسلّلت في غفلة من الزمن إلى هذا الكنز الدهريّ الثمين وسطَت عليه.

وقْفك يا ربّ يعيش منذ عقود معاناةَ طريق جلجلة طال أمدها، حتّى أضحت تمسّ أهلَه في صميم كيانهم، في صميم وجودهم،

من كلّ حدب وصوب يقصدون وقفك للتبرّك به، وعندما يبلُغون مأربهم، يصابون بالعقوق، ما خلا قلّةً قليلةً، عرفتْ معنى الوفاء، فبقيت تدافع عنه في وجه كلّ شيء،

وقْفك يا ربّ شعّ نورًا على مشرقٍ أنطاكيٍّ لا يقلّ عذابا عنه، فأغدِق عليه من نعمك التي أسبغتَ عليه، أعطه ممّا أعطاكم، يا باري الخليقة،

القريب قبل الغريب فتك بوقْفك، وبأهله، وبإنجازاتهم، لأن حضارتهم هي عار على هواة البدائيّة، أرضك يا ربّ أرض كلّ شبر بشهيد، وكلّ شبر بقدّيس، وقدّيسونا شهداء. لآلاف السنين أرضك تنتج الشهداء، ولآلاف السنين وهي تعطي القدّيسين، بركة للعالم. الدم الذي أهرق عليها ورواها يغطّي المعمورة، وما زال أهلوها صامدين، يردّون العدوان بصدورهم العارية، عينهم تقاوم المخرز، قدرهم هو، هو، منذ بدايات الأزمنة. المطامع تطاردهم في كلّ منعطف من تاريخهم الجليّ،

وقْفك يا رب مستباح، بَرّه، بحره، سماؤه، كلٌّ يريد حصةً من هذا المكان المقدّس،

المؤتمنون على وقْفك ما زالوا يمارسون قيمك وتعاليمك، يردّون على الكراهية بالمحبّة، وعلى التعالي بالتواضع، وعلى الجفاء بالمودّة، وعلى الرفض بالرضى، وعلى العنف بالسلام، وعلى القمع بالكلمة. نحن، أبناء الأرض المؤتمنون على وقْفك، جئنا اليوم نناجيك مناجاةً حضاريّة تليق بالثقافة التي زرعتها فينا، والتي شعّت على العالم فكرًا وفنًّا وفلسفة، فكانت أساس حضارة المعمورة،

جئنا اليوم نناجيك بكلماتٍ ونغماتٍ من إنتاج أبناء الأرض، لعلّ صوت الترنيم يقوى على صوت الحرب، لعلّ الإنشاد يحرّك عند الناس بعضًا من مشاعر اللطف والوداد، لعلّ الكلمة والنغم يقرعان أبواب ضمائر من استهانوا بحياة البشر، تلك الحياة التي أنت فقط تعطيها بمحبّتك وجلالك.  

إنّهم لا يدرون أنْ لا حقّ لهم بأخذها، فيستبيحون البشر والحجر والقيم والثقافة، ويشرّدون خليقتك ويرمونها في أتّون الذِلّ والبؤس،

أتينا إليك الليلة، مؤسّسات وأفرادًا، حاملين إيمانك والرجاء الذي زرعته فينا، لنقول للعالم إنّنا باقون نحرس الأمانة، ونتعهّدها، ونعتني بها، وننميها، على قياس كرمتك الباسقة التي تغطّي المعمورة،  

أتينا إليك الليلة نقول إنّنا على يقين أنّك ما زلت ترعى وطننا بنظرتك المُحبّة، التي سوف تنقذه من براثن الشرّ الذي يفتك به، إنّنا نعلم أنّ للباطل جولة، ولكنّنا نعلم أنّك قد غلبت العالم،  

أتينا إليك الليلة لنؤكّد أنّنا نعتني بإخوتك الصغار، وبالمتعبين وثقيلي الأحمال، ولنقول لك أيضًا إنّ الخوف لم يجد إلى نفوسنا سبيلا، لأنّك قلت لنا تشجّعوا، أنا هو. نعم، أنت هو يا ربّ، يا موجد الوجود، يا غايةَ الغايات، أيّها الحيّ القيوم الذي لا فناء لملكه. نقول لك إنّنا نؤمن بأنّ تجسّدك وصلبك وقيامتك تفعل فعلها، على الرغم من الشرّ المستشري في العالم. نقول لك إنّك سوف تبقى نورًا تهتدي به البشريّة. أنت يا مظهر النور، أنت منارة الناس الذين ضلّوا الطريق، وتنكّروا لذواتهم، ولكيانهم، ولكرامتهم، عندما تنكّروا لك.  

نحن على يقين أنْ، عندما يعود الناس الضالّون عن غيّهم، سوف يرون من جديد بهاء وجهك الجميل، ويديك المرحّبتيْن بمحبّة وتسامح،  

الجشع، والحرب والشطط القِيَميّ والأخلاقّي، وغيرها من موبقات العصر التي تسلّلت إلى البشريّة اليوم، كلّها نتيجة التنكّر لك، ووقْفُك وأهله الطيّبون المحبّون، المعطاؤن هم أكثر من وقع فريسة التوحّش في الحضارة،

ولكنّ أهل وقْفك، لبنان، والمشرق الأنطاكيّ، سوف يبقون حاملي شهادة تتحدّى من يريد العودة بالبشريّة إلى حياة المغاور،

نحن هنا، حاضرون بالشهادة والدور، نستلهمك في كلّ لحظة نحياها، وفي كلّ خطوة نخطوها، ونؤكّد أنّ جذورنا أعمق من أن تُقتلع،  

وقْفك يا ربّ باق على ما هو، مهما ضربته الأنواء، لأنّنا نحن، أهله، أبناء الرجاء والقيامة.