"نقف على عتبة مرحلة جديدة، نستوعب فجر وطن نحبّه ونعتزّ به جميعًا": البطريرك يوحنّا العاشر (1)
"شاهد، قف صامدًا في الإيمان، كن شجاعًا، كن قويًّا، فليتمّ كلّ ما تفعله بالمحبّة" (1 كور 16:13-14).
"بهذه الكلمات أبدأ وبهذه الكلمات أخاطب أبناءنا الأعزّاء في هذا الوطن العزيز. أمدّ يدي إلى يدكم في هذه الأوقات الدقيقة، لكي نضع معًا أملنا في الخالق القدير، أب الأنوار وإله كل تعزية، ليمسح كلّ اضطراب من قلوبنا، ويتوّجها برجائه المقدّس، ويقوّينا على السعي إلى غدٍ أفضل.
نحن على أعتاب مرحلةٍ جديدةٍ نتلّمس منها فجر وطنٍ نحبّه جميعًا ونعشقه. نحن على أعتابِ جِدّةٍ نريدها مشرقةً بالأمل ونرجوها متوجةً بالنور. نحن ههنا في دمشق، نقول للدنيا نحن كمسيحيّين من تراب الشام ومن أرز لبنان، من شموخ قاسيون ومن رحابة حمص وأصالة حلب، من نواعير حماه وهدير ينابيع إدلب، من بحر اللاذقية ومن فرات دير الزور. لسنا ضيوفًا في هذه الأرض، ولسنا أبناء اليوم ولا الأمس. نحن من عتاقة سورية ومن ياسمين الشام. نحن من أنطاكية الرسوليّة، من هذه الديار التي صبغت المسكونة باسم يسوع المسيح. نقول هذا ونرسمه عهدًا ونقوله لإخوتنا ولشركائنا في الوطن ونقوله أمام بارئنا الذي سُرَّ أن نكون في هذه الأرض...قلتها سابقًا وأكرّرها الآن: "إخوتي المسلمين، ما بين النحن والأنتم تسقط الواو، ويبقى نحن أنتم، وأنتم نحن"....
نحن في سورية بلد الشراكة الوطنيّة التي كانت وستبقى بإذنه تعالى واحدةً موحّدةً بوحدة ترابها وأوّلًا وأخيرًا بوحدة قلوب أبنائها. مددنا يدنا، كمسيحيّين، مذ وجدنا ونمدّها اليوم إلى أطياف هذا الوطن ومكوّناته كلّها. نحن أبناء سورية الحلم الذي يصبو إليه كل سوريّ. وسورية التي نريدها هي:
• سورية الدولة المدنيّة: التي يتساوى الجميع فيها بالحقوق والواجبات، بما في ذلك الحفاظ على قوانين الأحوال الشخصيّة لكلّ مكوِّنٍ من مكوّناتها.
• سورية دولة المواطنة: فنحن لا نستجدي مواطنيّتنا من أحد. نحن مكوّنٌ من هذا النسيج الوطنيذ الذي يأبى أن يتعاطى بمنطق الأكثريّة والأقليّة ويتجاوزه ويتخطّاه ليتعاطى بمنطق الدور والرسالة. على بعد أمتارٍ منّا كنيسة أو بيت يوحنّا الدمشقيّ جليس بلاط بني أميّة. نحن من كنيسة بطريرك الرحمة غريغوريوس حدّاد الذي مشت دمشق برمّتها بمسلميها ومسيحيّيها وراء جثمانه.
• سورية دولة العيش المشترك والسِلم الأهليّ: نمدّ يدنا إلى الجميع كما كنّا دومًا، ونناشد القريب قبل البعيد الحفاظ على السلم الأهليّ وعلى الشراكة الوطنيّة. ونناشد الجميع التطلّع إلى غدٍ مشرقٍ نبنيه معًا بأمل ورويّةٍ ورجاء. نقول هذا لا لنتغنّى بماضٍ سلف بل لنرجو مستقبلًا يأتي. نقول هذا ونحن نتنشّق الحرّيّة من أصوات أجراسنا التي كانت وتبقى تعانق المآذن وتناجي وإيّاها ساكن العلى وتعمل وتسعى وإيّاها إلى أن تكون على قلبٍ واحدٍ.
• سورية دولة القانون واحترام الأديان: كيف لا ومكوّناتها كلّها ركاب قاربٍ واحدٍ يأبى منطق الحماية والذمّيّة. نقول هذا وعيننا على وطنٍ يكرّس دولة القانون واحترام الأديان والكرامة الإنسانيّة التي على أساسها تبنى كرامته.
• سورية دولة احترام الحرّيّات الجماعيّة منها والفرديّة: هذه الحرّيّة المسؤولة المبنيّة على دولة مؤسّساتٍ مدنيّةٍ تضمن المساواة بين الجميع والدعوة إلى إشراك النساء والشباب لإعادة بناء سورية. كما تضمن أن السوريّين جميعهم متساوون أمام القانون، ولهم كلّهم الحقّ بالمشاركة في الحياة السياسيّة وتولّي المناصب العامّة على أساس الكفاءة من دون أي تمييز.
• سورية دولة الديمقراطيّة: حيث السيادة للشعب، والقانون هو الحَكَم، ويتمّ تداول السلطة فيها بطرق سلميّة.
• سورية دولة احترام حقوق الإنسان: من خلال ضمان استقلاليّة القضاء وتكافؤ الفرص بين أبنائها جميعهم، مع التشديد على أهمّيّة الالتزام بالقانون الدوليّ لحقوق الإنسان، ورفض مختلف أشكال العنف وخطابات الكراهية والتمييز.
إنّ الضامن الأوّل والأخير لتحقيق ما ذُكر كلّه هو الدستور، ولذلك يجب أن تكون عمليّة صياغة الدستور عمليّةً وطنيّةً شاملةً وجامعة.
يجب أن نؤكّد أيضًا أنْ لا ينبغي استخدام المسيحيّين كمواد للاستغلال الإعلاميّ. من الضروريّ أن نراعي كيفيّة التعامل مع وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، خصوصًا في ما يتعلّق بالإشاعات الكثيرة التي تنشرها بشكل غير مسؤول.
علاوة على ذلك، نشدّد على ضرورة التمييز بين الحذر والحكمة من جهة، والخوف من جهة أخرى. نحن لا نتفاعل مع إخواننا السوريّين خوفًا، فالحبّ هو الرابطة التي تجمعنا. وكما يقول المبشّر يوحنّا، "الحبّ المثاليّ يطرد الخوف، لأنّ الخوف ينطوي على العذاب. لكن الذي يخاف لم يصنع كاملًا في الحبذ" (1 يوحنّا 4:18).
ونحن نقترب من عيد ميلاد الربّ يسوع المسيح المجيد، موسم الرجاء الذي جلبه المولود الجديد، أسأل الله أن يحمي سورية ويلهم المسؤولين عن قيادتها في خلال هذه المرحلة لما فيه خير هذا الوطن وشعبه طيّب القلب الذي يستحقّ الحياة ويرى الأمل ينعكس في عيون الأطفال. من هذا الأمل، نتطلّع اليوم، مؤكّدين وواضعين الاعتبار أنّ "الله في وسطها، لن تتحرّك". مبارك اسمه إلى الأبد. آمين.