لبنان
03 حزيران 2024, 10:46

"ليس أمامنا سوى خيار واحد وهو لبنان الدولة-الوطن": البطريرك الراعي

تيلي لوميار/ نورسات
عقد "التجدّد للوطن" مؤتمره الثاني بعنوان "من لبنان الساحة...الى لبنان الوطن"، بدعوة من رئيسه شارل عربيد في واجهة بيروت البحريّة، بحضور بطريرك الروم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسي، والبطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي، وعدد من الوزراء في حكومة تصريف الأعمال، ومحافظ بيروت وعدد من الوزارء والنوّاب السابقين والسفراء والشخصيّات الدينيّة والأمنيّة والقضائيّة، وذلك في الأوّل من حزيران (يونيو) 2024.

 

كان البطريرك الكردينال بشارة الراعي واحدًا من بين متحدّثين ثلاثة في المؤتمر، قال:  

"المقاطعة الناتجة عن عدم الثقة بين اللبنانيّين هي سيّدة الموقف اليوم، ولذلك لا يجرؤ أحد على المبادرة إلى فتح حوار وطنيّ صريح وصادق يتفوّق على المصالح الشخصيّة والفئويّة كلّها، وكذلك لا يرى أحد جدوى من تلبية دعوة إلى حوار لا يغوص جدّيًّا في جوهر نقاط خلافيّة تراكمت حتّى تحوّلت إلى قنابل موقوتة. أما آن الأوان لنكون رجال دولة حقيقيّين لا نقيم اعتبارًا إلّا للبنان السيّد الحرّ المزدهر، لبنان الرسالة والنموذج للشرق كما للغرب، فنبادر فورًا إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة يقود حوارًا وطنيًّا مخلصًا للبنان يعيد الثقة ويضعنا على السكّة الصحيحة لترسيخ الاستقرار ولإعادة البناء على الصعد كافّة، وأبرزها السياسيّة والماليّة والاقتصاديّة والقضائيّة والأمنيّة..."

وقال أيضًا: "لعبت التأثيرات والمصالح الخارجيّة عام 1975 على التناقضات داخل الساحة اللبنانيّة فجعلت من لبنان ساحة عبثيّة للفوضى ولتصفية الحسابات ودفعت ببعض الفئات إلى توسيع أحلامها وأطماعها والرهان على قوى خارجيّة وعلى انتصارات وهميّة سرعان ما تبيّن أنّها لم تكن سوى خوضٍ في المجهول لا بل كانت انتحارًا حوّل لبنان إلى ساحة مفتوحة على الاحتمالات الهدّامة كلّها.  

وبعد نهاية تلك الحرب المشؤومة عادت اللحمة إلى النسيج اللبنانيّ ليعود مشروع الدولة وبناء المؤسّسات إلى الواجهة برغبة ظهرت صادقة من قبل معظم الفئات اللبنانيّة، ولكنّ هذا المشروع واجه العديد من الصعوبات والتحدّيات وكان له المتضرّرون من قيام الدولة بالمرصاد سواء من الخارج أم من الداخل".

تابع البطريرك الراعي كلمته، قال: "نَشأَت في الأوساطِ اللبنانيّةِ "كانتونات" مُغلقةٌ تُمارس حياتَها الخاصّةَ والعامّةَ بمنأى عن المجتمع اللبنانيّ الفسيح. إنّها "كانتوناتٌ اجتماعيّةٌ" تتداولُ في كيفيّة تسييس ذاتها وإعطائها حالةً شرعيّةً. لكنَّ الفرقَ شاسعٌ بين كانتونات النوادي المغلَقة وبين الكانتونات الدستوريّة.

وأمسى لبنان بلدًا طبقيًّا من دون صراع طبقيّ. فئاتُه الاجتماعيّةُ كوَّنت طبقات ذاتيّةً تمارس نمط حياة خاصًّا من دون أن تتصارع اجتماعيًّا وأمنيًّا، ولا حتّى سياسيًّا. وحين انتفض الشعب وتظاهر وقطع الطرقات من أجل تحسين شروط حياته اليوميّة، إنما انتفض ضدّ لا أحد، وضدّ عناوين مغلوطة. وحين اختار في الانتخابات ممثلّيه غالبًا ما اختار الأسماء المغلوطة أيضًا. إذا كانت هذه الأفكار تراود البعض فلأنّ لبنان كان ـــ على شوائبه ـــ بلد النهضة وبات بلد الانحطاط، وكان بلد البحبوحة وأصبح بلد البؤس، وكان بلد الحريّة وصار بلد الفوضى".

أضاف الراعي: "كثُرت في الآونة الأخيرة طروحاتٌ دستوريّةٌ مختلفة من أجل إيجاد صيغ دستوريّة تُعيد الأمل إلى الحياة في لبنان من دون أن تقضيَ على كيانه. تعتقد هذه الفئات أنّها صبرت كثيرًا على الصيغة القائمة وأعْطتها حظوظها جميعها، فيما فئاتٌ أخرى، من الطوائفِ كلّها أيضًا، تعتقدُ أنّ المراحل الصعبة باتت وراءنا والصيغة الحاليّة ستستعيد تألّقها، ولا داع بالتالي إلى البحث عن صيغ جديدة. لكن، سَها عن بال هؤلاء أنّ تألُّق الصيغة اللبنانيّة يتعذّر بمنأى عن انتظام الاستقرار السياسيّ والأمنيّ والكيانيّ في سائر دول الشرق الأوسط. تطوّر المجتمع اللبنانيّ جاء متنافرًا. فئاتٌ كانت بعيدةً عن الفكرة اللبنانيّة صارت تدافع عنها، وفئاتٌ أخرى كانت قريبةً منها ابتعدت عنها. تجاهلتْها وتجهّلت، والتحقت بأفكار أخرى لا تمُتُّ إلى الفكرة اللبنانيّة، حتّى بات التوفيق بينهما مستحيلًا".

ثمّ أتى البطريرك الراعي إلى موضوع الحلول قائلًا: "الحلول التي يقترحها اللبنانيّون للبنانَ الجديد يرتاب أصحابها في نجاحها لأنّ المجتمع اللبنانيّ صار عصيَّا على الحلول وأليفًا على المشاكل، ولأنّهم يطرحونها تحت وطأة الأحداث. استأنس اللبنانيّون التنقّلَ من أزمة إلى أخرى كأنّ الأزمات أهون من الحلول. الحلولُ الوطنيّة معقّدة، والحلولُ الفئويّة ليست موضوع إجماع.

وتبقى الإشكاليّةُ الكبرى في المجتمع اللبنانيِّ أنّ العناصر التأسيسيّة التي تكوّن "أمّةً" – وهي الشعب والتاريخ والجغرافيا واللغة والحضارة و/أو الثقافةُ – هي العناصر الخلافيّةُ التي تفرّق بين اللبنانيّين. فأطرافٌ لبنانيّة، متأثِّرة بالمحيط، اختزلت العناصرِ التأسيسيّة للأُمَة كلّها بالدين ثمّ بالمذهب وقضت على مفهوم الأمّة الحضاريّة اللبنانيّة وجرفت في طريقِها مفهومَ الدولةِ/الكيان. لا قيمة لأيّ أمّة أو دولة ما لم توفّر للشعب السلام المستدام والحرّية والكرامة. وهذه الفضائل هي ثمرة إرادة الحياة المشتركة قبل أن تكون حصيلة الدستور والقانون".

وتابع: "تغيّر نسيج المجتمعِ اللبنانيّ حضاريًّا ومناطقيًّا. لم يَعُد لبنان نسيج ما قبل سنة 1975، ولا نسيج إفرازات حرب السنتين، ولا نسيج كانتونات الثمانينيّات، ولا نسيجَ اختلاط تسعينيّات القرن الماضي. ومن هنا تتعقّدُ عمليّة انتخاب رئيس الجمهوريّة لأنّ القوى السياسيّة تظنّ أنّ الرئيس الآتي سيكون ناظم إعادة صياغة لبنان الجديد، ولا بدّ من وضعِ شروط مُسبَقة عليه. البعض يريد رئيسًا يأتي ليكُمِل، وآخرون يريدون رئيسًا ليَنقض. لكنّنا في الحقيقة نريد رئيسًا ليُغيّرَ ويخلق بيئةً وطنيّةً جديدةً نظيفة، وسلوكًا أخلاقيًّا، والتزامًا بالثوابت التاريخيّة، وبعلاقاتٍ إيجابيّةٍ مع العالم، ويضع حدًّا للتبعيّة وتشتيت الشرعيّة، ومقاربةً جديدةً للمشاكل ويفكّ أسْرَ اللبنانيّين".

وقال البطريرك الراعي: "كانت فكرة البطريرك الياس بطرس الحويّك الثابتة والعاملة إنشاءَ لبنان الكبير بكامل أرضه مسترجعًا المناطق التي سلختها عنه الولاية العثمانيّة، غير آبهٍ بتركيبتها السكّانيّة، لأنّه كان يعتبر الانتماء إلى لبنان بالمواطنة لا بالدين. وهكذا فصل الدين عن السياسة في لبنان حتّى يومنا. مع البطريرك أنطون بطرس عريضه، من إعلان دولة لبنان الكبير إلى محطّة الاستقلال، استمرّ موقف البطريركيّة ثابتًا على خيار لبنان الوطن بمفهوم دولة المؤسّسات القادرة والعادلة. مع البطريرك بولس بطرس المعوشي، استمرّت البطريركيّة في ثباتها على خيار الوطن-الدولة. كما رفض البطريرك اتّفاق القاهرة سنة 1969، وانحاز إلى مشروع الدولة. مع البطريرك أنطونيوس بطرس خريش، استمرّ صوت البطريرك يرفض كلّ الطروحات المسيحيّة والإسلاميّة والحرب في اندلاع، منحازًا إلى مشروع الوطن الدولة. مع البطريرك نصرالله بطرس صفير، ظلّ يغلّب لبنان الوطن على لبنان الساحة. ومعنا نحن يستمرّ خيار لبنان الوطن الدولة".

وختم البطريرك الراعي: "ليس أمامنا سوى خيار واحد وهو الدولة-الوطن الذي يجب العمل من أجله والتفاني في سبيله، وفي سبيل وجهه المتألّق عبر المئويّة الأولى لتكوينه"