"للتفكير العلميّ مكانة ذات قيمة في بطريركيّتنا الأنطاكيّة": البطريرك العبسي
كانت للبطريرك يوسف العبسي، بطريرك كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك الأنطاكيّة، بطبيعة الحال، كلمة في اللقاء العالميّ المنعقد في الربوة، قال فيها إنّ البرنامج الذي وضع لإحياء ذكرى استعادة وحدة الكنيسة الأنطاكيّةِ مع الكنيسة الرسوليّة الرومانيّة أتى متنوّعًا...لكنّ الفقرة التي شاء أولئك القيّمون أن يفرزوا لها حيّزًا أكبر ويعطوها بعدًا عالميًّا والتي اعتبروها حجر الزاوية في السنة اليوبيليّة، هي الفقرة التي تُعنى بالشأن الفكريّ والعلميّ، والتاريخيّ واللاهوتيّ والروحيّ. فأعادوا طباعة كتاب السواعي الذي كان الكتاب الأوّل الذي طُبع بالحرف العربيّ في تاريخ الطباعة العربيّة، عام 1514، ونشروا كتبًا أُلّفت خصّيصًا للذكرى المئويّة، ونظّموا لقاءات وندوات ثقافيّة، وفكريّة وفنّيّة...غير أنّ الفقرة التي استأثرت باهتمامهم قد تكون الفقرة التي نقيمها الآن في هذا المكان".
قال البطريرك العبسي: "اليوم نولي اهتمامًا خاصًّا في لقائنا حول "الكنيسة الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة: الاتّحاد مع روما ومستَشْرَفات جديدة"، لأنّ هذه الفقرة، بعناوينها، تكاد تكون شاملة لأنّها تمرّ بالتاريخ والإكليزيولوجيا واللاهوت والمسكونيّات والسينودسات والمغترَبات والليتورجيّات والرعائيّات، مستنبشةً الماضي ومستعرضة الحاضر ومستقرئة أو مصوّرة المستقبل.
لماذا هذا الاهتمام والتركيز كلاهما؟ لأنّ التفكير العلميّ، حتّى في الدين، هو القاعدة التي تقوم عليها الأعمدة التي يرتفع عليها البناء. والبرهان على ذلك أنّ البحث العلميّ في الكنيسة عمومًا ابتدأ، إن لم نقل حالًا، إنّما ليس متأخّرًا وبعيدًا عن بدايات انتشار المسيحيّة في العالم...منذ ذلك الحين راح البحث العلميّ يتطوّر ويتقدّم إلى أن بلغ ما بلغ إليه في أيّامنا الحاضرة، ولا ندري إلى أين سوف تصل نتائجه. والسبب هو أنّ البحث مطلب العقل سواء في الدين أو في غير الدين".
تابع البطريرك العبسي: "إذا ما تطلّعنا من قمّة السنوات الثلاثمئة خلفنا، نرى أنّ البحث العلميّ تمتّع بمكانة ذات قيمة في كنيستنا الأنطاكيّة على مدى تاريخها وإن بدرجات متفاوتة وإن اختلف من حقبة إلى حقبة، نظرًا إلى الأحداث المفجعة والأيّام المؤلمة والكوارث الهائلة التي حلّت ببطريركيّتنا حتّى كادت تقضي عليها في بعض الأحيان، لولا العناية الإلهيّة التي وعدتها بأنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها. أجل، للتفكير العلميّ مكانة ذات قيمة في بطريركيّتنا الأنطاكيّة. الأسماء كثيرة، والمواضيع متنوّعة ووافية، والأساليب جيّدة. وما نَبَغَت فيه كنيستنا هو استعمالها البارع للّغات التي مرّت عليها من حقبة إلى حقبة، حتّى العصر الحديث، اليونانيّة والسريانيّة والعربيّة واللغات الحديثة، والتي طوّعتها وجعلت منها أدوات صالحة للتعبير عن خصوصيّاتها في المواضيع كافّة، مستنبطة مفردات وتعابير جديدة خاصّة بها".
قال البطريرك العبسي أيضًا: "ما يجدر التوقّف عنده ومراجعة الذات في شأنه، في هذه المئويّة الثالثة، هو المستقبل، وبالطبع الحاضر الذي يهيِّئ له. إنّ كنيستنا في اليوم الحاضر تفتقر إلى التفكير الأكّاديميّ بالمعنى الحصريّ. قلّة من الكهنة والرهبان والراهبات يتمتّعون بتحصيل علميّ عال يسمح لهم بالتفكير والبحث الأكّاديميّين. العلمانيّون نادرون جدًّا. المعاهد؟ في الوقت الحاضر معهد واحد. المجلّات؟ ثلاث، توقّفت الواحدة تلو الأخرى عن الصدور: المسرّة والوحدة والرابطة. لذلك، علينا العناية بهذه الناحية بواسطة التحصيل العلميّ العالي، إذا أردنا أن تكون لنا مدرسةٌ أنطاكيّة كما كان في الماضي. فنحن اليوم نتأرجح بين الشرق اليونانيّ والغرب اللاتينيّ. بالإضافة إلى هذين المحورين أو المرجعين يحسن أن تكون لنا أصالتنا التي تنبع خصوصًا من العالم الإسلاميّ الذي نعيش فيه. من هذا المنطلق أنشأنا في دمشق، في بيئة مسلمة، كلّيّة للّاهوت ومدرسة للموسيقى البيزنطيّة وأخرى للإيقونوغرافيا. وعلم اللاهوت ليس علمًا بالله في ذاته فقط بل هو أيضًا علم بالله في عِلاقته مع الإنسان في واقع معيّن من المجتمع والزمان والمكان. والحال أنّ هذا الواقع، أنّ الإنسان عينه، تحصل فيه تغيّراتٌ وتبدّلات تستدعي تفكيرًا وبحثًا علميّين مرافقين...الإحاطة الكاملة النهائيّة بالله غير ممكنة من ناحية، والمتغيّرات في حياة الإنسان غير متوقّفة ولا جامدة من ناحية أخرى. بالتالي، في التفكير والبحث العلميّين استمراريّة دائمة...".
تابع البطريرك مخاطبًا الحضور: "رسائل بولس هي عصارة تفكيره. أقول كذلك إنّها عصارة تأمّله وصلاته. ليس في المسيحيّة تفكير مجرّد عن الصلاة. في المسيحيّة لا يكون التفكير مستقيمًا من دون تأمّل وصلاة. في المسيحيّة لا نبتدئ بالتفكير والبحث بل بالصلاة والاستماع. يخبرنا الإنجيل أنّ المسيح حين كان يختلي كان يختلي للصلاة. التفكير حاصل لكلّ الناس. الصلاة لا تحصل إلّا للذين يحرّكهم الروح القدس ويتّخذ منهم يراعات وقيثارات. إذا ما رجعنا إلى صلواتنا الطقسيّة نرى أنّ تفكيرها مجبول بالصلاة، محوّل إلى صلاة. نحن نصلّي بتعابير ومفردات لاهوتيّة وكتابيّة وليس عاطفيّة. التفكير اللاهوتيّ يقود إلى الصلاة كما نقول في الصلاة التي قبل تلاوة الإنجيل: "أيّها السيّد المحبّ البشر أضئ قلوبنا بصافي نور معرفتك الإلهيّة وافتح عيون أذهاننا لنفهم تعاليمك الإنجيليّة". الفهم يأتي من النور الإلهيّ. لا نتعلّم اللاهوت في المعاهد فقط بل أيضًا في الكنائس والأديار...وفي هذا السياق، أفرز القيّمون على المؤتمر مساحات كبيرة للصلاة والتأمّل بموازاة مساحات التفكير والبحث".
ختم البطريرك العبسي كلمته متمنّيًّا بلوغ المؤتمر أهدافه ...بهدي "الروح القدس الواحد في صلاتنا وتفكيرنا".