"لاهوت الآباء هو توسيع للمعرفة وليس إصلاحًا لها": المطران عوده
تناول المطران عوده، في عظته هذا الأحد، الاحتفال بتذكار آباء المجمع المسكونيّ الرابع مستندًا إلى ما ورد في (١كور٤: ١٠). هؤلاء الآباء الذين أسّسوا لنا إيمانًا مستقيمًا راسخًا على صخرةٍ التي هي المسيح يسوع وتساءل قائلًا: "ماذا تعني الأبوّة في الكنيسة؟"
أوضح المطران يقول: "الرسل أنفسهم كانوا أوّل الآباء في الكنيسة لأنّهم ولّدوا تلاميذهم في الربّ. يقول الرسول بولس: ]إنّي أنا الذي ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل[" (1كو 4: 15). فكلّ من يلد المؤمنين بالمسيح هو أبٌ. الأب هو الراعي والموجّه الروحيّ والمرشد والكارز والمبشّر والمعلّم. هو الإنسان المحبّ والمضحّي.
الآباء هم ناقلو التقليد الكنسيّ الصحيح، وحَمَلَة الفكر السليم المستقيم، وخلفاء الرسل في تسليمهم الوديعة الحيّة. إنّهم الناطقون بسلطان الخبرة الروحيّة، خبرة الروح القدس، المقتناة في الكنيسة".
تابع المطران عوده: "كنيستنا، هي كتابيّةٌ-آبائيّةٌ في آن، قائمةٌ على الإنجيل وبشراه، كما أنّها كنيسة الآباء الذين نطقوا بإلهام الروح القدس. من هنا، توازي أهمّيّةُ تعليم الآباء أهمّيّةَ الكتاب المقدّس، وهذا يدلّ على أنّ عمل الرّوح القدس لم ينته بعد العنصرة، بل استمرّ في الكنيسة- جسد المسيح وهيكله الحيّ، ويستمرّ إلى الأبد، لأنّه مقيمٌ فيها".
أضاف المطران: "عمل الآباء هو توسيعٌ وتطويرٌ وتفسيرٌ للحقائق الموجودة في الكتاب المقدّس وفي حياة الكنيسة وشركتها بالروح القدس، وليس خلقًا من العدم أو ابتداعًا. عطاؤهم يأتي من قلب الكنيسة، لأنّ نقل اللاهوت يتمّ من قبل الذين يقتنون النعمة الإلهيّة ويعيشون في الكنيسة بوعي، ويسلكون بقوّة التقليد. لا يقدّم الآباء مسيحًا جديدًا ولا خالقًا جديدًا، إنّما يدخلون، بعمق أكثر، في الحقائق الإلهيّة. بعد هذا الدخول، يقدّمون خبرتهم الشخصيّة. هذا لا يعني أنّ كلّ أب يصل إلى خبرة مغايرة لسواه، لإنّ لاهوت الآباء هو توسيعٌ للمعرفة، وليس إصلاحًا لها. بالروح القدس، يكون كلّ أب خلّاقًا في بنيان اللاهوت، إلّا أنّه لا يكون مبتدًعا. الحقيقة في ذاتها لا تكبر ولا تنقص، لأنّها مماثلةٌ للواقع الإلهيّ، بيد أنّ كلّ فرد في الكنيسة ينمو في اختبار الحقيقة بمقدار ما يسير في طريق الربّ. ما يحصل هو اكتمالٌ للخبرة. الكلام على نموّ للحقيقة خطأ وابتداع، والكنيسة لا تقبل بالابتداع".
أردف المطران وقال: "الروحانيّة واحدةٌ عند الآباء، وكلٌّ منهم يسير على طريق التألّه الواحد. لذلك، خطأٌ أن نعتبر أنّ من الآباء من شقّ خطًّا لاهوتيًّا خاصًّا به، ومنهجًا عقائديًّا يميّزه عن غيره. يعود هذا الخطأ إلى إنكار الحقيقة الواحدة، ورفض الكشف الإلهيّ للإنسان، لأنْ يستحيل أن يكشف الله لإنسان لاهوتًا مختلفًا عن اللاهوت الذي يكشفه لآخر. طبعًا، تظهر اختلافاتٌ أحيانا بين أب وآخر، لكنّها اختلافاتٌ تفسيريّةٌ بغالبيّتها، وقد تصل إلى وجهة نظر مختلفة. هذا دليلٌ قاطعٌ على أنّ الروح القدس لا ينتزع من الإنسان حرّيّته، بل يثبّت له خصائصه الشخصيّة وصفاته الذاتيّة".
شرح المطران عوده، قال: "لا يُفهم لاهوت الآباء وعملهم إلّا من خلال علاقتهما الصحيحة بالكتاب المقدّس، لأنّ الإنجيل والآباء يرتبطون عضويًّا، ويلج واحدهم في أعماق الآخر. الأدب الإنجيليّ هو أدبٌ آبائيٌّ، أي ليس غريبًا عن أدب الآباء القدّيسين. الحقيقة لا تَسَعُ في كتاب ولا في حرف ولا في شكل، لأنّها كائنٌ يدعى يسوع المسيح. الآباء أكملوا مسيرة الكتاب المقدّس، فكشفوا عن بعض من الجمال المخفيّ وراء حرف الكتاب، أي أنّهم أبرزوا الحقيقة نفسها الموجودة بين أسطر الكتاب المقدّس، وعبّروا عنها بأسلوبهم.
اليوم نعيّد لآباء المجمع المسكونيّ الرابع الذي التأم في مدينة خلقيدونية قرب القسطنطينيّة عام 451، بحضور أكثر من خمسمئة أسقف من أنحاء المسكونة كافّة، للدفاع عن إيمان الكنيسة الثابت بطبيعتين كاملتين، إلهيّة وبشريّة، في شخص يسوع المسيح. عقد هذا المجمع ردًّا على الراهب أوطيخا الذي قال بوجود طبيعة وحيدة في المسيح، زاعمًا أنّ طبيعة المسيح البشريّة ذابت في ألوهيّته ذوبان قطرة الخمر في المحيط، أي أنّ الطبيعة الإلهيّة ابتلعت الطبيعة البشريّة. هذا مسٌّ سافرٌ بسرّ الفداء الحاصل بالربّ يسوع، وهو الذي حمل طبيعتنا البشريّة بأوجاعها ليمجّدها بالقيامة الظافرة، بعد اقتباله الصلب والموت. حدّد آباء المجمع الرابع الإيمان القويم بقولهم إنّ الطبيعتين البشريّة والإلهيّة اتّحدتا كاملتين، بلا اختلاط أو تغيّر، بلا انقسام أو انفصال، في شخص المسيح ابن مريم، المصلوب والقائم من بين الأموات، وهو نفسه الكلمة الذي «صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمةً وحقًّا» (يو 1: 14)".
"أيّها الأحبّة"، تابع المطران، "كما أنّ في الكنيسة ثوابت ينطلق منها كلّ مؤمن، توجد في الأوطان دساتير هي الركائز التي تبنى عليها الأوطان... وكما تصدّى آباء الكنيسة للتفسيرات والأفكار الخطأ، على مجلس النوّاب أن يتصدّى لكلّ خطأ دستوريّ قد يحاول البعض نشره أو تعميمه...
أملنا أن يحترم الجميع دستور لبنان، وعلى رأسهم نوّاب الشعب، وأن يطبّقوا نصوصه علّ الشعب يستريح من الضغوط النفسيّة والمعيشيّة، وينعم بقليل من الاستقرار. كما ندعو المؤمنين إلى قراءة الكتاب المقدّس، واستلهام الآباء القدّيسين من أجل فهم أوضح لعمق الكلمة الإلهيّة، علّنا إذا تعلّمنا نصير آباء بقوّة نعمة الروح القدس الممنوحة لنا في المعموديّة، آمين".